خصصت دورية «ناشيونال جيوغرافيك» الأميركية في عددها الصادر بشهر نوفمبر/ تشرين الثاني 2007 ملحقا خاصا عن موضوع الذاكرة البشرية تناولت من خلاله مادة البحث من عدة أبعاد شاملة ومنها ما يتعلق بتقديم نماذج وحالات حية وأخرى تتعلق بالعلاقة بين الثقافة والذاكرة، إلى جانب التطرق إلى الرؤية التاريخية المستمدة من عصور الإغريق والرومان تجاه الاهتمام بموضوع الذاكرة البشرية، بالإضافة إلى دخول زاوية تشريحية وعلمية تتضمن آراء الأطباء وعلماء النفس والبحاثة المختصين في مجال دراسة الذاكرة البشرية.
وتناول الملحق في بدايته قصة امرأة أميركية من ولاية كاليفورنيا تبلغ من العمر 41 عاما وتعمل كمساعدة إدارية وقد اختير لها اسم مختصر بحسب الأعراف الطبية هو «AJ»، ولعل ما يميز هذه المرأة - بحسب المجلة - هو ذاكرتها الخارقة التي تستطيع من خلالها إعادة التذكر لكل يوم من حياتها بمنتهى الدقة والتفصيل منذ أن كانت في سن الحادية عشر مما يجعلها من المحتمل أن تكون صاحبة أعظم وأقوى ذاكرة بشرية في العالم، حيث تصف ذاكرتها بأنها أشبه ما تكون بالفيلم الذي تمضي أحداثه من دون أدنى انقطاع واختلال، فهي تتذكر بالتحديد ما كانت تفعله في الساعة 12:34 مساء في يوم الأحد بتاريخ 3 أغسطس/ آب 1986 حينما اتصل بها هاتفيا شاب وقعت في غرامه، وتتذكر بأنها في 28 مارس/ آذار 1992 تناولت وجبة الغداء مع والدها في فندق بيفرلي هيلز، بالإضافة إلى أنها تتذكر الأحداث العالمية التي عاصرتها إلى جانب ترددها إلى البقالة وأحوال الطقس وكيف كانت حينها أحاسيسها وعواطفها ومزاجها!
وقد قادتها ذاكرتها الخارقة التي لا تتعلق بتذكر الحقائق والأرقام وإنما تذكر حياتها الخاصة إلى أن تكون موضعا للبحث والدراسة المتخصصة في جامعة كاليفورنيا منذ سبع سنوات وذلك من قبل علماء المخ والأعصاب الذين صنفوا حالتها الغريبة بمسمىhyperthymestic syndrome!
وفي مقابل الذاكرة الخارقة التي تتمتع بها «AJ» اختارت المجلة حالة مغايرة تماما لمن باعتبارها من الممكن أن يكون صاحب أسوأ ذاكرة على الإطلاق، وهذه الحالة تتعلق برجل متقاعد عمل سابقا كفني مختبر اختير له اسم «EP»، وهو يعاني، ربما من دون أن يعلم، من حالة مرضية تسببت في حدوث اعتلال يقدر بحجم جوزتين في الجزء الدماغي المختص باستيداع الذاكرة والاحتفاظ بها ما أدى به إلى فقدان القدرة على خلق ذكريات جديدة منذ العام 1960 على الأقل، فهو لا يتذكر بشكل ممتاز سوى طفولته وعمله في التجارة البحرية ومشاركته في الحرب العالمية الثانية في حين أنه لا يعلم مثلا أي شيء عن أن الإنسان استطاع أن يهبط بعدها على سطح القمر!
وفي حين استطاع «EP» الإجابة بشكل صحيح على أسئلة تتعلق بحقائق جغرافية وبعدد الأسابيع في الشهر الواحد ودرجة الحرارة التي يغلي عندها الماء، إلا أنه لم يتعرف أبدا على صاحب هذه الأسئلة الذي أدخله إلى بيته وأجلسه معه بعد أن عرفه على نفسه، فبدا وكأنما يتطلع إلى شيء غريب عنه تماما!
ويشير الملحق إلى أن ما توصل إليه علماء الأعصاب بشأن الذاكرة هو أن الذاكرة عبارة عن نماذج لوصلات مخزنة بين الأعصاب في الدماغ، حيث يوجد هنالك ما يفوق المائة مليار من تلك الأعصاب بإمكانها صنع 5000 إلى 10000 وصلات مع أعصاب أخرى بإمكانها أن تنتج حوالي خمسمئة إلى ألف تريليون من الوصلات العصبية المتشابكة المكونة للذاكرة وذلك في متوسط عقل فتى، بالمقارنة مع 32 تريليون بايت فقط من إجمالي المعلومات التي تضمها مكتبة الكونغرس الأميركية وهي أكبر مكتبة في العالم، فتبارك الخالق عز وجل!
ويؤكد الملحق على أنه وعلى رغم الاختلاف الحاصل بين العلماء حول أنظمة الذاكرة إلى أنهم يتفقون على وجود نظامين عامين للذاكرة هما الذاكرة بيانية والذاكرة غير بيانية، ففي حين ترتبط الذاكرة البيانية بما يتذكره الفرد مثلا عن لون سيارته وما حصل له البارحة وغيرها وهو ما يعاني من فقدانه «EP»، في حين ترتبط الذاكرة غير البيانية بما يعرفه الفرد من معلومات مسبقة من دون الحاجة إلى إعادة التعرف عليها أساسا ومنها مثلا ما يرتبط بكيفية سياقة الدراجة وكيفية رسم شكل في مقابل الرؤية في المرآة.
ويلقي الملحق إطلالة تاريخية على ما تعارف عليه الإغريق القدامى بـ «فن الذاكرة» الذي ابتدعه الشاعر الإغريقي سيمونايدس الذي كان بإمكانه ومن خلال ممارسته لهذا الفن الذي أمكن من خلاله أو عبر إتباع واكتشاف ما عرف بتقنية المكان (LOCI) التي ساعدته في تحويل ما يشاء أن يتذكره إلى صور ذهنية وإعادة ترتيبها وفق مساحة هندسية متخيلة تعرف بـ «قصر الذاكرة»، ووفقا لتلك المحاولات فإن الذاكرة من الممكن أن تصبح افتراضيا جزء ثابتا تستحيل إزالته!
ويستطلع الملحق أيضا بشكل عابر تقنيات الاستذكار «Mnemonics» التي تم من خلالها تناقل التلمود اليهودي شفهيا منذ قرون، بالإضافة إلى مراحل حفظ وتدوين القرآن الكريم من قبل المسلمين، ودور الشعراء السلافيين الجنوبيين في شرق أوروبا في تخليد الملاحم والآثار الأدبية الهائلة عبر استذكارها بشكل كامل، ولكنه يشير في الوقت ذاته بأنه ومنذ الألفية المنصرمة حصل هنالك تحول جوهري بارز في مجال الاستذكار من خلال اعتماد البشر تدريجيا على الاستفادة من المنجزات التكنولوجية الهائلة في تخزين المعلومات بدلا من حفظها ذهنيا، وهو ما يعني بحسب علماء النفس الانتقال إلى الذاكرة الخارجية بدلا من الاعتماد على الذاكرة الداخلية.
ويقدم الملحق نبذة موجزة عن قصة قصيرة للأديب الأرجنتيني الكبير جورج لويس بورخيس يصف من خلالها حكاية رجل ابتلي بعدم القدرة على النسيان، حيث هو يعيش ويتذكر جميع تفاصيل حياته إلا أنه لا يستطيع التفريق بين التافه منها والمهم، ولا يستطيع أن يحدد أولوياته، ويختتم بورخيس قصته بعبارة مفادها «أن النسيان وليس التذكر هو الذي يعد جوهر إنسانيتنا، وأن تفكر فهذا يعني أن تنسى».
ومن خلال الانتهاء من الاطلاع على هذا الملحق الشيق والقيم دارت في خاطري عدة أسئلة لا يمكن أن أغفل عن ذكرها للقراء الأعزاء لكونها تتحدث عن مطابقة ثيمة هذا الملحق والبحث الذي نشر في «ناشيونال جيوغرافيك» من جهة وذلك مع مواضيع تؤرقني وتؤرق الكثير من الزملاء الأفاضل والإخوة الأعزاء لكونها تتعلق بمستقبل ذاكرتنا الوطنية وبالتفاعلات الجحيمية لمشاهد الاحتقان والتأزم الطائفي والاثني في استقطابيته التي طالت كثيرا وطغت على جميع المشاعر والأفكار والأحاسيس والانطباعات والقراءات والأخيلة.
فلو كنا مخيرين في اختيار الذاكرة التي نريد مثلا فأي منها ستكون؟!
هل هي الذاكرة الخارقة لـ «AJ» عسى أن نتمكن من استرداد ماضينا مشهدا مشهدا بمآسيه وأعياده، بأحزانه وأفراحه فنستوعب الدروس ونعتبر من حماقات دقائق قادت إلى بلوى عقود من الزمن؟!
هل سنعتبر ونتغير أساسا فيما لو قلبنا دفاتر ذاكرتنا صفحة صفحة، وسنتخلص من عقدنا العصابية الموروثة والمستحدثة والمستقطبة؟!
أم نحن أحوج إلى الذاكرة المعتلة لـ «EP» عسى أن نظل إلى الأبد مستلقين في ظلال أيام الماضي الجميلة رغم كوننا رابضين في جحيم الحاضر ولا أفق المستقبل المعدوم الملامح؟!
إن كان «EP» قد فقد القدرة على تجديد ذاكرته منذ الستينات فهل سيكون ذلك أمرا ملائما لنا، وإن كان مع ذلك ما زال محتفظا بمخازن ذاكرته غير البيانية التي تمكنه مع معرفة أساسيات التواصل اليومي والحياة والتماهي مع الوجود رغم أنه فقد إلى الأبد تفاصيل وملابسات ومحددات الأشياء التي ربما عرفها للتو ونساها للتو أيضا، عسى أن تجمعنا بذلك غريزة التعايش المشترك الحتمية وننسى تفاصيلنا اليومية وسأمنا المفرق ومتوارثاتنا التشتيتية؟!
أم أننا فقط بحاجة إلى صلاة جماعية واستغاثة تستنجد بفضيلة النسيان لتمحي عنا ذنوب وابتلاءات الذاكرة عسى أن نتمكن من استعادة إنسانيتنا واستعادة قدرتنا على التفكير والتصالح مع ذاتنا ومع بيننا ووجودنا المشترك الذي اختطفته الذكريات كما كتب في ذلك بورخيس الذي أشرنا إليه آنفا؟!
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 1996 - الجمعة 22 فبراير 2008م الموافق 14 صفر 1429هـ