بدأت محاولات الإصلاح الديني والمدني والاجتماعي بأفق جديد في العصر الحديث في مصر مع جهود رفاعة رافع الطهطاوي (1801- 1873) الذي درس على الشيخ حسن العطار في الأزهر. ثم ابتعث إلى باريس وتعرف على الغرب مباشرة، وبعد عودته عمل مترجما ورئيسا لمدرسة اللغات الجديدة ورئيسا لتحرير الجريدة الرسمية «الوقائع المصرية». غير أنّ عمله المهم كان في حقل الترجمة، فضلا عن مؤلفاته الكثيرة.
وفي مرحلة لاحقة وفد جمال الدين الأفغاني (1839- 1897) إلى مصر العام 1871، وأمضى فيها ثماني سنوات توصف بأنها من أخصب سنوات حياته، احتضن فيها مجموعة من الشباب الذين تعلموا على يديه مبادئ علم الكلام والفلسفة والتصوف والفقه، وكان من أبرزهم السياسي المعروف سعد زغلول، ومحمد عبده(1849- 1905)الذي اقترن به، واشتركا معا في عدّة أعمال، من أهمها نشر مجلة في باريس صدر منها ثمانية عشر عددا باسم «العروة الوثقى» وكان بيان هذه المجلة بصوغ محمد عبده، أمّا أفكارها فكانت أفكار الأفغاني.
ويوصف الأفغاني بأنه «عنيف يستحيل ترويضه، أو على حد تعبير بلنط (عبقري بري) وأنه كان خطيبا يثير الجماهير، غير أنه لم يكن يحب الكتابة، ولم يكتب بالفعل إلا القليل».
وقد تأثر محمد عبده بأستاذه الأفغاني، وتفاعل معه، وحاول أنْ يترسّم خطاه، ويتمثل تعاليمه، ويقتبس أفكاره، حتى أنّ جمال الدين عندما ودع أصدقاءه وتلاميذه في السويس حين مغادرته لمصر العام 1879 قال لهم: «لقد تركت لكم الشيخ محمد عبده وكفى به لمصر عالما».
لكن محمد عبده لم يصاحب الأفغاني حتى النهاية، بعد أن تردد في اعتبار الإصلاح السياسي بوابة لكلّ عملية إصلاح، كما يرى استاذه، وأدرك أن الإصلاح ينبغي أن يبدأ بالإصلاح التربوي والثقافي بحسبما يقول محمد رشيد رضا، بأن محمد عبده ضعف أمله في الإصلاح السياسي ووجه التفاتة إلى الإصلاح القومي في التربية والتعليم، فصارح جمال الدين في أوروبا، بأنه يرى أن الوسائل السياسية لن يرجى منها خير؛ لأنّ تأسيس حكومة إسلامية عادلة مصلحة، لايتوقف على إزالة الموانع الأجنبية فقط، وانه خيرٌ لهما لو عكفا على تربية أفراد على ما يحبون، في مكان هادئ بعيد، لاسلطان للسياسة فيه، ثم يذهب هؤلاء الرجال بدورهم إلى الدول المختلفة لتربية مثلهم على ماربوا عليه.
ولانريد أن نؤرّخ لحياة محمد عبده، ونلاحق سيرته الفكرية والسياسية، والمنعطفات التي مرّت بها؛ لأنّ ذلك خارج عن غرض هذه المقالة، وإنما أردنا الإشارة إلى أنه سعى للاستقلال عن مشاغل الأفغاني السياسية في المرحلة اللاحقة من حياته، وكثف جهوده في الحقل العلمي والتربوي والثقافي.غير أنه لم يستطع الانسلاخ من تبعات الشعارات والمفاهيم التي تلقاها من استاذه.
واستأثرت الجهود الإصلاحية للشيخ محمد عبده وآثاره بالكثير من الدراسات وطغى على معظمها الطابع التبجيلي، بالشكل الذي «أصبح محمد عبده بالنسبة لمصر والإسلام، نبي عهد جديد»واعتبره بعض الدارسين «أحد مؤسسي الإسلام الحديث».
ومن أجل التعرف على المكاسب الحقيقية لجهود محمد عبده، ومكانتها المعرفية والثقافية في تحديث التفكير الديني، نحسب أنّ مقارنتها بآثار محمد اقبال، أحد أهم الوسائل لاكتشاف حجم مساهمات محمد عبده والقيمة المعرفية لآثاره. لأنّهما عاشا في فترتين لعصر واحد واهتم كلاهما بمشاغل إصلاحية متقاربة في منطلقاتها، وإن تنوعت مطامحها ومادياتها وآثارها ومصيرها. مضافا إلى أنّ محمد عبده ينتمي إلى مصر والفضاء الثقافي والاجتماعي والسياسي العربي ، بينما ينتمى محمد إقبال إلى شبه القارة الهندية وفضائها الثقافي المختلف. فقد تقدم على إقبال في الهند السير سيد أحمد خان بهادر (1817- 1898) والذي كان واحدا من أبرز رواد الإصلاح هناك، فهو مؤسس جامعة عليكره العام 1875، التي أراد لها أنْ تحتضن الاتجاهات الحديثة في الإسلام، وتهتم بإعداد نخبة تكتسب مهارات وخبرات في العلوم الإنسانية الجديدة، وتعمل على توظيف معطياتها في الدراسات الإسلامية.
لكن الدارس لحركة الاصلاح الإسلامي في الهند لايمكنه تجاهل أفكار ومواقف محمد إقبال (1873- 1938) الذي ولد لأب ينزع إلى التصوف وأم لفرط ورعها وتدينها كانت تحجم عن أن تأكل ما يكتسبه زوجها؛ لأنّها كانت تشك في أن رئيسه في العمل يتعاطى الرشوة. أمّا «أجداد إقبال فكانوا من البراهمة، وأسلم أحدهم عند اتصاله بصوفي مسلم صادق». كما وردت الإشارة الى ذلك في أحد دواوينه. ودخل إقبال في مكتب لتعليم القرآن في طفولته، وأكمل تعليمه بمدرسة البعثة الاسكتلندية في سيالكوت برعاية استاذ بارع بالأدب الفارسي وملم بالعربية هو مير حسين الذي تنبأ لتلميذه بمستقبل باهر، وظفر التلميذ بجوائز كثيرة، وفي العام 1895 دخل كلية الحقوق في لاهور، ودرس على استاذ الفلسفة الإسلامية هناك المستشرق السير توماس آرنلد، الذي كان له تأثير عميق على حياته الفكرية. وواصل إقبال تعليمه في هذه الكلية حتى نال درجة «M0A» في الفلسفة. وبعد تخرجه اختير لتدريس التاريخ والفلسفة في الكلية الشرقية بلاهور، ثم تدريس اللغة الإنجليزية في الكلية التي تخرج فيها. وفي العام 1905 سافر إقبال إلى أوروبا وأكمل تعليمه الفلسفي بجامعة كمبردج، وانهى دراسة الدكتوراه في الفلسفة بجامعة ميونيخ.واختاره استاذه توماس آرنلد ليحل محله في تدريس اللغة العربية في جامعة لندن بعد توقفه عن التدريس. وفي العام 1908 عاد إلى موطنه وعمل في المحاماة، ودرس في جامعة لاهور، وصار رئيسا لقسم الفلسفة، وعميدا لكلية الدراسات الشرقية فترة طويلة.
ولعلّ أهم أثر يلخص الرؤية التحديثية لمحمد إقبال هو كتابه»تجديد التفكير الديني في الإسلام»الذي هو حصيلة ست محاضرات ألقاها في مدراس، وحيدر آباد، وعليكره بين عامي 1928- 1929، وهي تعبّر عن اسهامه الكبير في مهمّة إيقاظ أبناء دينه في الهند، وإعادة النظر في الإسلام بمفاهيم معاصرة وحيّة مستمدة بالدرجة الأولى من حصيلة الفكر الأوروبي في القرن التاسع عشر ومطلع العشرين. واستهلها إقبال بقوله: «أحاول بناء الفلسفة الدينية الإسلامية بناء جديدا، آخذا بعين الاعتبار المأثور من فلسفة الإسلام إلى جانب ماجرى على المعرفة الإنسانية من تطور في نواحيها المختلفة».
وتتميز هذه المحاولة بكفاءتها النظرية، وهندستها التركيبية، وغناها بحشد وفير من معطيات العلوم الانسانية الحديثة، وبراعتها في توظيف تراث المتصوفة والعرفاء والفلاسفة والمتكلمين والاصوليين والفقهاء. حتى عدها أحد الدارسين بأنها: «أول محاولة تامة لإعادة بناء اللاهوت الإسلامي على قاعدة استدنائية».وسنعود الى هذا الكتاب للتعرف على منطلقات محمد إقبال في تحديث التفكير الديني لنقارنها بجهود محمد عبده، خصوصا كتابه «رسالة التوحيد» الموازي لكتاب إقبال هذا.
التفكير الديني الحديث في الهند ومصر، يتفق الدارسون على التأثيرات العميقة لمقولات الإسلام السياسي في شبه القارة الهندية على الإسلام السياسي في مصر والبلاد العربية. وخصوصا مقولات «الحاكمية، والجاهلية،... «التي استقاها سيد قطب من أبي الأعلى المودودي، وصاغ على ضوئها الكثير من مفاهيمه في الدولة، وحدد في إطارها طائفة من احكامه ومواقفه حيال المجتمع. لكن لم يتجل لنا بوضوح تاريخ التواصل بين الاتجاهات الحديثة في الإسلام الهندي والإسلام في مصر، وربما كان جمال الدين الأفغاني أوّل حلقة وصل بين هذين الفضاءين الثقافيين، باعتباره من أوائل الذين تعرفوا على الاتجاهات الجديدة في الهند، بعد أن أخرج من مصر العام 1879، ففارق مصر إلى الهند وأقام في حيدر آباد الدكن، وهناك صنّف رسالته الأثيرة في «الرد على الدهريين»، وهي تتضمن مناقشات لما عرف بـ «النيتشريين»أو الطبيعيين في الهند، وهم أتباع السير سيد أحمد خان.
ونقلها إلى العربية محمد عبده بمساعدة عارف أفندي الأفغاني المعروف بأبي تراب، الذي كان ملازما لجمال الدين. والنيتشرية حركة عصرية أطلقها سيد أحمد خان بعد زيارة قام بها الى انجلترا في السبعينات من القرن التاسع عشر. وهي تدعو إلى فهم جديد للاسلام أطلق عليه الناس اسم «النيتشرية» وهو مأخوذ من كلمة نيتشر الانجليزية «nature» ومعناها الطبيعة. وفحوى هذه الدعوة: ان القرآن لا الشريعة هو جوهر الإسلام، وإن تأويل القرآن يجب أن يتم وفقا لمبادئ العقل والطبيعة، وإنّ النظام الخلقي والحقوقي يجب أن يكون قائما على الطبيعة.
*مفكر إسلامي عراقي
إقرأ أيضا لـ "عبدالجبار الرفاعي"العدد 1995 - الخميس 21 فبراير 2008م الموافق 13 صفر 1429هـ