وأخيرا... سنجلب العمالة الفيتنامية! فبعد أن طفح الكيل بالعمالة الهندية، انتقلنا إلى استجلاب العمالة من فيتنام!
وأخيرا... بدأنا نحلّل أسباب اضرابات الهنود، مرة نرجعها إلى «تحريض» السفير الهندي، ومرة إلى انخفاض سعر صرف الدولار، ومرة إلى ارتفاع الوعي العمالي ومعرفتهم بحقوقهم، وبمقدار ما تفنّنا في عرض الأسباب، فإننا ابتعدنا عن معرفة الحقيقة الكبرى: إنهم بشر!
عندما ارتفعت أسعار المواد الغذائية، وأخذت تتآكل قدرتنا الشرائية، أخذنا نتوجّع ونطالب برفع الرواتب والأجور، ولكننا لم نفكّر لحظة في العمال الفقراء الذين يعيشون في الظل، ويؤدّون أشق الأعمال، ويتلقون أدنى الأجور.
فكّرنا لمّا اكتوينا بلهيب الأسعار ففقدت مداخيلنا ثلث قيمتها، ولم يخطر ببالنا كيف يعيش العامل الهندي الفقير الذي يقبض 60 دينارا، نصفها لشراء ما يسكن جوعه. لم نفكّر كيف يدفع إيجار الغرفة التي يشارك فيها ثمانية عمال آخرين، وكيف يعيش في بيوت أكثرها آيل للسقوط، وكيف ينام على السطح عند اشتداد القيظ.
لم نفكّر في أن وراء العامل التزامات عائلية مثل أي بحريني تماما، أو أنه يعيش حلم العودة يوما ليخطب فتاة من جيرانه، أو يرغب في شراء قميص جديد كل ستة أشهر، أو يشتاق للاتصال بعائلته ليسمع صوت أمه أو أخته.
اتهمنا السفير الهندي بالتحريض، وطالب بعضنا بطرده؛ لأنه طرح أمورا خيالية ومطالبَ «تعجيزية»، ستؤدي إلى تهديد استقرارنا وتقويض اقتصاداتنا المزدهرة. لم نفكّر للحظةٍ في أن الهنود بشر، يؤذيهم الحر، ويوجعهم العمل الشاق تحت لهيب الشمس الحارقة في أغسطس/ آب. وحين بدأوا يبعثون رسائل استغاثة في السنوات الأخيرة أسأنا فهمها والتعالم معها. كان أحدهم يعلّق نفسه في المروحة، وبعضهم يرمي نفسه من جسر المشاة في شارع الملك فيصل ليخلص من حياة الهوان، وكانت تفسيراتنا لا تتجاوز أن هؤلاء «المنتحرين» يعانون أمراضا نفسية!
اليوم... هربنا من رمضاء الهنود إلى نار الفيتناميين! وطبعا لن نفكر في أكثر من كونهم «حمير شغل»، فأكبر مزاياهم إنهم يعملون 12 ساعة من دون تعب أو تأفف، فهم ليسوا بشرا أيضا!
نسينا أن هؤلاء العمال الذين تشرّبوا روح الهند المسالمة و «ساتياراها» (لا عنف) غاندي، لم يستطيعوا الصبر أكثر على الأوضاع التي وضعناهم فيها، وأخذنا نفكر في استبدالهم بصنف جديد من «المستَعْبَدين»، وسننسى أيضا أن هؤلاء هم أبناء هوشي منه، الذين حاربوا الاحتلال الفرنسي عشر سنوات، والولايات المتحدة عشرين عاما أخرى، حتى دحروا القوتين الاستعماريتين، أنفة وكبرياء.
علينا ألا نبتهج ونطير فرحا لوصول الدفعة الأولى من «العبيد الجدد»، فقد نسينا أن هؤلاء هم من بقايا ثوار «الفييتكونغ»، وأن أميركا استخدمت كل الوسائل العنيفة لسحق إرادة آبائهم، من تصفية الأسرى والتجميع القسري للسكان وقصف القرى الآهلة بقنابل النابالم، وحرق الغابات التي كانوا يقاتلون فيها ليقضوا حرقا واختناقا بالأدخنة والنيران.
لا تفرحوا أيها السادة، فقد جهّزتهم البردعة القديمة، ولكنكم لم تستوعبوا الدرس بعدُ. الفيتناميون بشرٌ مثل الهنود، والدفعة الجديدة من عمّالكم ليسوا حميرا... فمتى تستوعبون الدرس؟
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1994 - الأربعاء 20 فبراير 2008م الموافق 12 صفر 1429هـ