إعلان استقلال كوسوفو من طرف واحد وبناء على خطة وضعها الرئيس الفنلندي السابق مارتي اهتيساري في العام 2007 بتفويضٍ من الأمم المتحدة فتح باب «البلقنة» على مساحة جغرافية واسعة. فالإعلان الذي اعتمد خطة الرئيس الفنلندي التي اقترحت الاستقلال بإشراف المنظمة الدولية وتحت وثيقة رسمية أكدت أن «كوسوفو مجتمع ديمقراطي وعلماني ومتعدد العرقيات» لا يعني أن الأمور انتهت سلميا ومن دون تداعيات وارتدادات. فالكلام عن العلمانية والديمقراطية والتعددية في مجتمع بلقاني يحتاج إلى تدقيق وقراءة واقعية للتضاريس الجغرافية والبشرية والعمرانية التي تتكون منها منطقة تشكلت سياسيا على قاعدة العنف والحروب الأهلية الدائمة. وكوسوفو التي تمتد على مرتفعات جبلية تزيد قليلا على مساحة لبنان وتعيش فيها أقلية صربية إلى جانب أكثرية ألبانية تخضع جغرافيا لمنافذ محاطة بمجموعات متجانسة عرقيا ودينيا (مسلمين وألبان) من جهة ومجموعات متنافرة عرقيا ودينيا (مسيحيين وصرب) من جهة أخرى.
المكان الجغرافي يفرض شروطه الواقعية (الجيوسياسية). والشروط لا يمكن عزلها عن التاريخ والديموغرافيا ومصالح الدول وخصوصا صربيا التي تحولت عمليا إلى جمهورية جبلية بعد انفصال الجبل الأسود (مونتينيغرو) عنها. ولا يستبعد أن تتحول المسألة إلى مشكلة سياسية تثير المتاعب لدول الجوار نظرا إلى الأهمية الاقتصادية التي يمثلها البحر الأبيض المتوسط لتجارة أوروبا الشرقية الدولية.
مسألة كوسوفو يمكن النظر إليها من جهات مختلفة دينية وقومية وإنسانية، إلا أن هذه الجهات لا تلغي الجوانب الجغرافية والسياسية والمصلحية ودورها في تقويض الاستقرار وتعطيل التوازن بين الديموغرافيات السكانية. والجوانب الخفية من المسألة تعتبر الأهم في لحظة يشهد فيها العالم بداية عودة إلى «الحرب الباردة» وبروز دور روسيا الاتحادية قوة لا يستهان بنفوذها في مجالها الجغرافي السياسي في أوروبا الشرقية وجنوبها المتوسطي (اليونان وصربيا).
تجاهل تعقيدات المسألة الكوسوفية وإسقاطها من الحسابات الدولية والقارية يعطيان فكرة عن احتمالات تنمية مشروعات «استقلالية» في أمكنة أخرى تعتمد رؤية تقويضية تحت ستار «الدولة الميكرو».
التقويض (التفكيك) يمثل الوجه الآخر للبلقنة. وهذا النوع من «البلقنة» الذي تشخص في حروب أهلية (دينية وقومية) أودت بالاتحاد اليوغوسلافي منذ تسعينات القرن الماضي يرجح أن يعاد تَكراره بحالات متقاربة في «قوس الأزمات» الممتد من باكستان إلى دارفور في السودان.
قوس الأزمات الذي أطلقت عليه سابقا وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس «الشرق الأوسط الجديد» يشكّل بيئة خصبة لإعادة التفكيك والتركيب. والمثال البلقاني (اليوغوسلافي) الذي اشتغلت عليه السياسة الأميركية عقدين من الزمن تقريبا لا يستبعد أن تعاد تجربته في منطقة مشهود لها بالتنوع والتعدد الأقوامي والقبلي والديني والمذهبي.
المشهد البلقاني ليس بعيدا في تكوينه الجغرافي والبشري عن تلك المشاهد التي تظهر على شاشات «الشرق الأوسط الجديد». فهذا «الشرق» أخضع بدوره منذ ثمانينات القرن الماضي إلى مراجعات ودراسات استشراقية قامت بها المعاهد والمؤسسات الأميركية. وخلصت الكثير من تلك القراءات إلى استنتاجات تقارب إلى حد معين ما وصلت إليه المطالعات بشأن البلقان.
الدولة الميكرو
نظرية «الدولة الميكرو» التي اعتمدت لتفكيك الاتحاد اليوغوسلافي وتشطيره إلى سبع دويلات بدأت إدارة «تيار المحافظين الجدد» تنفيذها لإعادة هيكلة خريطة «الشرق الأوسط الجديد» منذ غزو أفغانستان نهاية 2001 واحتلال العراق مطلع 2003.
تقوم «الدولة الميكرو» على نظرية التجانس بين الهيئة السياسية (البرلمان، الحكومة، والرئيس) والجماعة الأهلية (العرق، الدين، القوم، القبيلة). وهذا يعني في المفهوم الأميركي المعاصر إعادة النظر في الكيانات السياسية القائمة وتقويضها من الداخل بمساعدة الخارج (إشراف دولي، مساعدات من الأمم المتحدة). فالميكرو هي تصغير أحجام «الدول» الحاضرة وتقطيع أوصالها وتفكيكها إلى جزئيات متقاربة في ألوانها أو أقوامها أو أديانها أو مذاهبها. وهذا النوع من دويلات الميكرو يعطي الاستراتيجية الأميركية التقويضية ذاك المدى الجغرافي السياسي للتدخل في الشئون القومية أو السيادية للدول بذريعة حماية الأقليات والدفاع عن حقوق الإنسان تحت مظلة الأمم المتحدة أو حلف شمال الأطلسي (الناتو).
بلقنة «الشرق الأوسط» وإعادة تركيب خريطته الجديدة وفق تصورات نظرية تفكك الدولة الوطنية تلغي عمليا الكثير من الكيانات السياسية المركبة من ائتلاف أقوامي أو ديني أو مذهبي أو طائفي أو قبلي. باكستان مثلا دولة مركبة (السند والبنجاب). وأفغانستان أيضا دولة مركبة (البشتون، الطاجيك، البلوش). كذلك إيران دولة مركبة والعراق أيضا. لبنان دولة مركبة كذلك السودان. كل هذه الدول وغيرها تقع في دائرة «الشرق الأوسط الجديد» التي تعرضت لضربات عسكرية وتدخلات خارجية وغزوات واحتلالات مباشرة أو مداورة تحت شعارات ومسميات مختلفة ولكنها استهدفت بداية تقويض الدولة الجامعة وتفكيكها إلى دويلات مناطق تدير شئونها زعامات محلية تستمد قوتها من القبيلة أو الطائفة أو المذهب أو القوم. وما يحصل الآن في أفغانستان (ثم باكستان) وما حصل في العراق (تقويض الدولة وتوزيعها إلى ثلاث دويلات) وما يعاد إنتاجه في لبنان (أمراء طوائف ومناطق) أو السودان (فصل الجنوب وعزل إقليم دارفور) حتى فلسطين (تشطير السلطة إلى ضفة وقطاع) كلها إشارات يمكن ربطها في سياق متشابه يعتمد نظرية «الدولة الميكرو».
استراتيجية تقويض «الشرق الأوسط» ليست جديدة ولكنها ظهرت بقوة في أوساط المعاهد الاستشراقية وأعلنت خرائطها في أكثر من مناسبة بعد حرب الخليج الثانية (1990-1991). ففي تلك الفترة نشرت دراسات تتعلق بمستقبل «إسرائيل» وموقعها ودورها بعد تفكك الاتحاد السوفياتي وانفصال جمهوريات آسيا الوسطى المسلمة عن موسكو.
آنذاك استخدمت مفردة «الشرق الأوسط الجديد» باعتبار أن رقعة المكان الجغرافية اتسعت بعد انضمام تلك الدول إلى الخريطة السكانية للمنطقة. وطالبت تلك الدراسات بتعزيز قوة «إسرائيل» وتطوير دورها الإقليمي لتكون قادرة على مواجهة تلك الإضافات التي دخلت على مساحة «الشرق الأوسط الجديد». ودعت تلك المطالعات الاستشراقية إلى حماية «إسرائيل» بصفتها الدولة الديمقراطية الوحيدة (إلى جانب تركيا) في المنطقة. والحماية في رأي تلك القراءات لا يمكن لها أن تتوافر في ظل دول كبيرة تقودها أنظمة منغلقة تحمل ايديولوجيات قومية (عربية) أو دينية (إسلامية) وتمتلك ثروات وإمكانات تعزز طموحاتها ومشروعاتها إلى خارج حدودها السياسية والطبيعية.
شكلت فكرة «الشرق الأوسط الجديد» التي تبلورت نظريا مطلع تسعينات القرن الماضي حجر زاوية في استراتيجية «تيار المحافظين الجدد» التقويضية إذ قدمت كل الذرائع لتدخل إدارة واشنطن في خصوصيات دول المنطقة ودعوتها إلى تغيير سياساتها أو تعديل برامجها الثقافية والتربوية.
الفكرة اصطدمت بصعوبات وعقبات ولكنها نجحت ميدانيا في مناطق الاحتلال (أفغانستان والعراق وفلسطين) أو في المناطق الخصبة بالطوائف والمذاهب والأديان والألوان (لبنان والسودان مثلا). وبسبب النجاحات الميدانية لمشروع التقويض وبدء ظهور دويلات «الميكرو» في العراق وأفغانستان وربما باكستان لاحقا فإن احتمالات استمرار الإدارة الأميركية في الضغط على الدول الضعيفة والقابلة للانفجار والتفكك (الصومال مثالا) مسألة غير مستبعدة حتى لو دخلت رئاسة جورج بوش طور الشوط الأخير من السباق.
مسألة كوسوفو معقدة وتحتاج إلى إطلالة تقرأ مشهد إعلان الاستقلال من زاوية أوسع من الدعوة إلى فكرة «مجتمع ديمقراطي وعلماني ومتعدد العرقيات». فالمسألة تحتاج إلى رؤية استراتيجية كبرى تتصل مباشرة بمشروع البلقنة بصفته يحاكي سياسة تقويض دول «الشرق الأوسط الكبير» وخطة إعادة رسم خريطته لتنسجم مع هيئته الجديدة المؤلفة من عشرات دويلات «الميكرو»
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1994 - الأربعاء 20 فبراير 2008م الموافق 12 صفر 1429هـ