قبل أيام احتفلنا نحن البحرينيين بمرور ذكرى عزيزة على قلوبنا ألا وهي الذكرى السابعة لإقرار «ميثاق العمل الوطني» شعبيّا، فكان حينها أجمل تجلي تاريخي مشرق لتضافر إرادة عاهل البلاد مع تضحيات ومطالب وأمنيات شعب البحرين الذي قدم ضحاياه وشهداءه الأبرار على مدى قرن في سبيل نيل المطالب المشروعة من حرية وعدالة وإصلاح، فكم هنالك من أفراد هذا الشعب ممن حلم بمثل هذا اليوم ولكن الظروف لم تقدر له أن يعيشه، وإن كنا لا نختلف فيما تحقق بفضل من الله تعالى وبفضل تضافر الإرادات من انفراجة غير مسبوقة بعد طول عهد أمن الدولة الغابر، فلولاه لما قدر ربما لهذه المقالة أن تجد سبيلها للنشر في الصحافة المحلية، ولما كانت هنالك جرأة غير مسبوقة في طرح الكثير من القضايا الساخنة!
ولكننا بوارد أن نضع هنالك الكثير من الملاحظات النقدية الساخنة والمشروعة لمآل «المشروع الإصلاحي» وخصوصا على صعيد سيرورة الإصلاح السياسي وخصوصا إن كنا أمام تغطيات واحتفاليات بهذه المناسبة تستكثر على قطاع عريض من الشعب الاحتفال بهذه المناسبة وتمارس بحقهم أبشع الابتزاز مع طغيان واضح ومبتذل لاستعراضات للطبول والألوان والرقص والأهازيج والتدندن بالـ «98.4» المنبعثة في صورة احتفالات معتادة عوضا عن وجود فعاليات بحجم تلك الاستعراضات تقدم أطروحات ومعالجات نقدية لواقع «المشروع الإصلاحي» ومآله المستقبلي، وترصد بحيادية وموضوعية التحديات الكبرى الماثلة أمام مسيرته الريادية بعين العقل والمنطق لا العاطفة والتدابر السياسوي!
فمن اللائق بنا أن نتعامل مع هذا المشروع كما تتعامل الأمم المتحضرة والمتقدمة مع أجندتها المصيرية واهتماماتها الجادة بعلوم التخطيط الاستراتيجي و «المستقبليات»، وليس كفرحة القبائل البدائية بزخات المطر أو فرحة «الطبابيل» بـ «الحلاوة»!
وإن كانت هنالك عدة أسئلة مشروعة وعالقة عن واقع «المشروع الإصلاحي» سواء أكان تكتيكا سياسيّا مرحليّا أم مشروعا استراتيجيا عامّا، وإن كان مرتبطا ومتبوعا بالتغيرات الاستراتيجية الأميركية في المنطقة في عهد الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش، التي تحولت من «المناداة بالحرية والديمقراطية» إلى استراتيجية أمنية بامتياز تسعى نحو «تحقيق الأمن والاستقرار» وإن أتى على حساب «الحريات والإصلاح»، أم أننا إزاء مشروع نهضوي رائد بامتياز ذو خطة ورؤية مستقبلية واقعية وعملية مهيئة للتطبيق على صعيد الإصلاح السياسي الذي لايزال للأسف وحتى هذه اللحظة ذا آفاق غائمة أو معتمة أو ربما هي مغبرة على رغم مكابدة عدد من التحديات الجسيمة التي سنتطرق إليها لاحقا!
فلنكرر سؤالنا المطروح سلفا عن وجود جدول وخط زمني محدد (Time - Line) يرصد أجندة الإصلاح السياسي في البحرين ويساهم على الأقل في تحديد الأرضية التي نحن عليها سائرون، ولنستفسر إن كان هنالك اهتماما رسميّا بالمؤشرات الدولية بشأن أوضاع الحريات العامة والخاصة بالبلاد وما بلغته من مستوى تصنيفي معين سواء أكان سلبيّا أم إيجابيّا، وإن كنا لا نختلف في أن هذه المؤشرات الدولية قد تكون في جزء منها ذات أهداف سياسية وأجندة مرحلية بحتة إلا أن ذلك لا يعني أن نتعامى بالمرة عن ما تطرحه هذه المؤشرات بأسلوب مهتم ومتجدد وراقٍ يضعها على طاولة مقابل ما يوفره لها من حلول وبدائل وسبل للرد العملي الواضح عوضا عن سياسات «التطنيش»!
فعلى رغم مرور سبع سنوات من الإقرار الشعبي لـ «ميثاق العمل الوطني» إلا أننا لا نزال نرى ذلك الدعم والتلميع الفوقي المسف لـ «النشطاء السياسيين» و «الجمعيات» و «التنظيمات» التي تتبنى خطاب «أمن الدولة الغابر» وتعمل بحسب منطق «ضابط الأمن» لكنما ما تحقق من مكاسب مشروعة على صعيد الحريات العامة والحق في إبداء الرأي والتعبير إنما هو تهديدات و «أجندات» سياسية مرتبطة بفئات وجماعات محددة ستهرب المستثمرين كما لو أن الاستثمار والمستثمرين لدى هؤلاء أشبه بـ «الذبان فوق الشيرة»، من دون أن تكون هذه الحريات العامة مكسبا وطنيا مقدّسا ومصلحة عامة ومجالا حاضنا وشاملا للجميع!
وبالمثل مازال هناك من كتاب الأجرة الصحافية من يطالب بضرب الشعب وسحقه وتكسير عظامه، أوليس من الأولى أن يتم ضم هؤلاء إلى جانب من يستغل أجواء الانفتاح في إحداث أعمال العنف والشغب كخطر محدق بـ «المشروع الإصلاحي»؟!
بالنسبة إلى التحديات الكبرى التي تقف قبالة «المشروع الإصلاحي» والتي لا يمكن تجاوزها وتفاديها، فإننا ومن باب حرصنا المشروع وعلى مستقبله طالما لايزال الأفق السياسي غائما لا بد من أن نعيد التذكير بهذه التحديات المصيرية ووجوب أن يكون للدولة موقفا حازما خلالها يراعي مواقف الإرادة الشعبية التي لا يمكن تجاهلها واستثنائها أو بالأحرى إقصائها وتجاوزها في أسوأ الأحوال طالما أنه كان لهذه الإرادة أو بالأحرى الإرادات فضلا في إنجاح هذه المشروع المشترك.
فمن بين هذه التحديات يبرز تحدي المصالحة الوطنية وإعادة تجديدها وبث دماء الحيوية في شرايينها التي تصلّبت كثيرا، وذلك على أمل التوصل إلى كلمة سواء بين الدولة والشعب، فلابد من أن تشمل هذه المصالحة تعويض أسر ضحايا وشهداء عهد أمن الدولة الغابر إلى جانب ضحايا وشهداء الواجب من أسر رجال الأمن وغيرهم، فلا يمكن التنكر لحقيقة جوهرية وحاسمة مفادها أن الجميع من فئات الشعب وفئات البشرية كافة كان مزجوجا زجّا رهيبا بسبب أخطاء سياسية ارتكبت ولم يتم تجاوز آثارها من قبل الضحايا الكثر ومنهم من سلب عقله ومن سلب إحساسه ومن سلب جسده ومن سلب قبلها مواطنته!
أفلا يجدر بالإخوة الأفاضل والموقرين أن يضعوا نصب أعينهم الآية القرآنية الكريمة «يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى» (المائدة: 8)، وذلك إلى جانب «خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين « (الأعراف: 199)، ألم يحن الوقت لذلك؟!
وهناك تحدٍ آخر يرتبط بوضع السلطة التشريعية المنتخبة في البلاد وضعف سلطاتها وصلاحياتها ومقامها الدستوري المحبط لفاعليتها وقدرتها التمثيلية السياسية، والمشروع الواقعي الوحيد المطروح شعبيّا لمواجهة ذلك هو مشروع «التعديلات الدستورية»، وإن كان هنالك نفر ليس بقليل من النواب المدسوسين والمدعومين يعملون ضد أنفسهم وضد صلاحياتهم وسلطاتهم بإيعاز أعلى من دون أن يأخذوا في بالهم الحديث النبوي الشريف «من حفر حفرة لأخيه وقع فيها»، ويدركوا بالتالي أنهم قد يكونوا مستقبلا في أمس الحاجة إلى تلك التعديلات لتمرير مشروعاتهم، فمن منا سيشعل شمعة كبرى بحجم ذكرى الهروب النيابي السياسي الكبير من مواجهة هذا المطلب الوطني الضروري حينما تغيب النواب بأعداد كبيرة خشية مواجهة إقرار هذا المطلب «المرعب»، الذي أصبح فضيحة بجلاجل غير قابلة للاحتواء!
وإلى جانب ذلك فما طرحه النائب عادل العسومي عن أزمة التعامل مع السلطة التنفيذية لا يمكن أن يمر بهدوء وسلام، فذلك الواقع المرير يشهد به الكثير من الإخوة النواب الذين لا يجدون سوى التهرب والصدود والتملّص من قبل أطراف كثيرة من السلطة التنفيذية في تلبية طلباتهم واستفساراتهم المشروعة التي تهم جميع المواطنين، فالبرلمان مازال في طور «التهديد» لدى الحكومة والدولة ولابد بالتالي من حشد «أجنداتنا» ضد «أجنداتهم»!
أما على صعيد أزمة التجنيس السياسي أو قل «لوثة التجنيس» فمازلنا في مقدمة الحاصدين لآثارها ومخاطرها على أوضاع المجتمع والاقتصاد والسياسة التي لا حاجة إلى التذكير بها، وما تشكله هذه الأزمة من إهدار تنموي وإهدار لقيمة «المكرمات» لا حصر له، وما الملف الإسكاني عنّا ببعيد!
فمتى سيفتتح حوار الدولة والمجتمع المحتم بشأن تحدي «التجنيس السياسي» وتداعياته ومخاطره وذلك لمصلحة جدوى «المشروع الإصلاحي» أولا وآخرا؟!
هنالك أيضا تحديات الفقر المعيشي والفقر السياسي الجاثمة أمام طريق «المشروع الإصلاحي» بانتظار الحلول البنيوية الجوهرية لا انتظار العصاة السحرية التي تديرها وتحركها عبثا في خدمة مخططات وأجندة مصلحية معينة!
أما بخصوص الحديث عن تحدي المحاصصات الطائفية والإثنية بما تشكله من تركة ثقيلة جدّا ومتوارثة فحدّث ولا حرج، فعلى رغم الحديث الطائل والمستمر عن أيام الوحدة الوطنية الجميلة والعيش المشترك وتقاسم كسرات المصاعب والظروف السيئة بين أفراد الشعب مازالت هواجس المحاصصات الطائفية الجامحة التي تجد لها روافدها الإقليمية والعالمية ومنابعها المحلية هي المهيمنة على المشهد!
في ظل هواجس وعقليات المحاصصات الطائفية الاستقطابية والتقسيمية المقيتة التي أصبحت لها ذائقتها الشعبوية الاستهلاكية المميزة أمسى العمل الصحافي أو بالتحديد إدارة العمل الصحافي كمؤسسة ربحية أشبه ما يكون بتجارة الأسلحة والحروب، وأصبح فقدان الأزمات والمآسي والأحقاد كابوسا مريعا، وأضحى المسئول السني في غير ذي مأمن وراحة بال من المحقق «كونان» الشيعي، والمسئول الشيعي تحت طائلة استهداف المحقق «كونان» السني، ونحن لا نعلم متى ستنتهي تلك الحلقات والدورات والتواترات المرضية السخيفة إلى غير رجعة!
وإن كان الشيعة يستشعرون تخوّفا حين تعيين مسئول سني، فالسنة كذلك يستشعرون الهاجس ذاته أمام تعيين مسئول شيعي قد يمارس الإقصاء والتمييز ذاتهما، فهي باختصار للأسف أزمة ثقة عامة أخفقت سنون العيش المشترك في السراء والضراء في معالجتها ووضع حد لها، وعلى رغم فيض الندوات والمحاضرات والمؤتمرات والجلسات التي تعقد لطرد الأرواح الطائفية الشريرة إلا أن السلوك الطائفي يجد له خير قماقم وجماجم مؤسسية راسخة في نهاية الأمر وعلى الأصعدة كافة فهناك صحافيو الطائفة ورجال أعمال الطائفة ومسئولو الطائفة ولاعبو الطائفة وسفهاء الطائفة وهلم استحمارا!
أحدهم قال لي ذات يوم بحس سوداوي ساخر: «بدلا من أن ننتظر أجمل الأيام التي لم نرها بعد، فإننا ربما على موعد مع أسوأ الأيام التي لم نرها بعد»، وفي الوقت الذي تعتزم فيه الإمارات العربية المتحدة الشقيقة إنشاء أول مدينة خالية من الكربون بأبوظبي، فأرى أننا بحاجة إلى إنشاء أول مدينة خالية من الطائفية البشعة المتوارثة بين الجانبين، ومن النعرات الإثنية الجاهلية التي لم يهذبها الإسلام!
لو كان الاحتفال قد أتى لبحث مستقبل «المشروع الإصلاحي» وطرح أسئلة وجودية على غرار ما تبقى من هذا المشروع ومراحله المقبلة ومحدداتها الزمنية، وما هو المآل المشترك، فسيكون أفضل ذلك بكثير من الدورة الاستعراضية الرتيبة والمملة بإسفاف التي قد تحيل الاحتفال بالمشروع إلى حلقات ذكر شرعي لمحاسن الموتى، أو أشبه ما يكون بالاحتفال بنصر أكتوبر في عصر التطبيع مع الكيان الصهيوني!
ما نعرفه وما تخبرنا به التجارب الإنسانية المشتركة أن «الإصلاح» هي مفردة تستخدم لعملية تواصلية وتراكمية حافلة بالتضحية ومحددة ومفصلة بالخطوات العملية المتضافرة التي تتطلب أولا إما فتح الجراح ومعالجتها، أو فتح الجراح للميكروبات والملوثات، فإما هي بذلك مشروع انتحار أو مشروع إعمار ولا وسط بينهما
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 1994 - الأربعاء 20 فبراير 2008م الموافق 12 صفر 1429هـ