كثر الحديث هذه الأيام عن استفحال التمييز في مجتمعنا حتى غدا ظاهرة لا تخطئها العين. وتناولها البعض من منظور الفئة الأكثر تضررا في حين تناولها البعض الآخر لتبرير ممارساته. ونظرا إلى خطورة استفحال هذه الظاهرة على سلامة الوطن ووحدة مكوناته بات لزاما تناولها بالتحليل الموضوعي، وهو منظور آخر يهدف للحد من اتساع نطاقها ودرء مخاطرها.
لفترة طويلة من الزمن اعتبر الحديث عن ممارسات التمييز نوعا من التابو المحرم، فتم غض الطرف عن محترفيه لدرجة نكران وجوده، مستشهدين تارة بمواد من الدستور تنص على المساواة وتكافؤ الفرص وعدم جواز التمييز لأي سبب، ومتخفين تارة أخرى وراء نظام المحاصصة بين الطوائف المكونة للمجتمع. وبعد اتساع نطاق ممارسات التمييز وبروزها إلى السطح وتناولها بالبحث على المستوى المحلي والعالمي، لم يجد بعض ملاك هذه العلامة التجارية المميزة بدّا من الاعتراف بوجودها والدفاع عنها واختراع المبررات لها، فالغاية تبرر الوسيلة. ومن هذه المبررات التي يتم تداولها ما يأتي:
عجز الفئة المستهدفة عن إثبات ولائها
ولإيجاد تعريف علمي لمفهوم الولاء لا بد من نظرة فاحصه على مضمونه. فالولاء كلمة شاملة جامعة لجوانب عدة. منها الولاء للوطن الجامع، ومنها الولاء للشرعية والنظام السياسي، أي القبول به والعمل في إطاره، ومنها الولاء للواجب والمسئولية المناطة بالفرد او الجماعة. وكل هذه الجوانب تنضوي تحت مفهوم القبول ودرجة تحمل المسئولية والمساءلة التي تكون ملزمة بعد التكليف عملا بالمبدأ الإداري القائل لكي يكون الفرد مساءلا يجب إعطاؤه المسئولية أولا.
فالولاء للوطن هو خاصية بديهية ومن المسلمات التي يشترك فيها الانسان والحيوان والطير على حد سواء. والخروج عنه يعتبرعملا شاذّا أو نادر الحدوث من قبل الافراد والجماعات. فالوطن هو البيت الكبير الذي يرفض الانسان عادة مشاركة الغير في ملكيته ناهيك عن التخلي عن هذه الملكية. وعبر البحرينيون بمختلف فئاتهم عن هذه النزعة البشرية في مراحل مختلفة من تاريخ وطنهم السياسي. من هنا يصبح الحديث عن عدم الولاء للوطن محض خرافة لا ترقى لمستوى الحوار الجاد.
الولاء للشرعية المتمثلة في النظام السياسي
في المجتمعات المستقره سياسيا لا يعتبر الاختلاف حول ممارسات الجهاز الاداري للدولة حالة عدائية للنظام السياسي أو انتقاصا من شرعيته. فموضوع الشرعية في مملكة البحرين قد حسم أمره منذ أمد بعيد، وتم تأكيده بالتصويت على الاستقلال وعلى الميثاق ومن ثم الدستور والمشاركة السياسية، وكلها مفاصل حاسمة في الولاء للشرعية والتسليم بها. وفي الوضع القائم من الحراك الوطني الساعي لتفعيل الدستور وتطبيق حكم القانون المتمثل في العدالة.
والمساواة وتكافؤ الفرص كحقوق مواطنة، من الطبيعي الاختلاف ورفض أية ممارسات تتقاطع مع هذه المواثيق والعهود الملزمة لجميع الاطراف. وهذا النوع من الاختلاف الايجابي لا يعبر عن حالة من عدم الولاء كما يحبذ البعض ابرازه، بل العكس هو الصحيح، فالتطبيق المخالف لمبادئ الدستور هو الذي يمثل حالة واضحة لعدم الولاء لواحد من أهم الاعمدة التي يستمد منها نظامنا السياسي شرعيته. من هنا تصبح محاولات الفئات الخارجة عن الاجماع الوطني لتبرير سياسات التمييز والعنصرية بإسقاطها أمرا مثيرا للاستغراب.
يسوق مروجو خرافة عدم الولاء أمثلة لتبرير التمييز منها معتقد المرجعية الدينية المرادفة للاعتقاد بدولة الخلافة، ويحلو لهم الانتقائية في توزيع الولاءات، على رغم معرفتهم التامة ان ظروف البحرين الخاصة لا تؤهل احدا للالتفاف على الشرعية مهما تنوعت المعتقدات والقناعات. ويبقى الالتفاف الحاضر الوحيد متمثلا في الخطط المبرمجة من قوى الاستئثار لإضفاء صبغتها الخاصة على مفاصل الدولة.
كما يسوق المدافعون عن التمييز والاستحواذ مبررات أخرى منها حمل صور وأعلام الغير من قبل البعض متناسين ان نظام التمييز والمفاضلة وجد قبل ان يولد اصحاب الصور المرفوعة وقبل ان توجد الأعلام المحرمة. ومتناسين ايضا ان المسئولية على الجرم او الجنحة حسب التعريف القانوني تنحصر في مرتكبيها، ولا تمثل مسوغا قانونيا يجيز العقاب الجماعي. كما تناسى هؤلاء ان العلم رفرف في المغرب والمشرق العربي ابتهاجا بالصمود أمام الاسرائيليين ولم تتم الإشارة إلى أحد بعدم الولاء لأوطانهم لتبرير انتقاص حقوق المواطنة. وعلى رغم كل ذلك فالغالبية العظمى التي لا تجيز رفع غير صور قادة الوطن وعلمه قد طالها سيف التمييز الذي لم يستثنِ أحدا.
الأبعاد الحقيقية للتمييز
بعد أن تكشفت لنا خرافة الولاء وعدم الولاء لتبرير ممارسات التمييز نعود للكشف عن مسبباته الحقيقية، فعلاج المرض يكمن في تشخيصه. فالتحول التدريجي من نظام المحاصصة إلى نظام التمييز تكمن خلفه أسباب لا علاقة لها بخرافة الولاء او عدمه. ومن هذه الأسباب عقدة الشك والخوف من الآخر والتي استفحلت بعد التحولات السياسية على المستويين الدولي والاقليمي. فالضغوط الدولية المدفوعة بسياسة الاستقطاب والاحتواء وخلق المحاور تتطلب استحضار الاختلافات بشتى صورها، وهذه بدورها تخدم الاجندات المحلية المتمثلة في السياسة الاستعمارية القديمة الجديدة «فرق تسُد» والتي تعتبر التمييز النسبي من أهم ادواتها.
والتمييز النسبي المعاش يتمثل في حقوق وطنية مسلوبة لفئة، وحقوق منقوصة لفئة أخرى وفقا لنظام المفاضلة وتوزيع الغنائم SPOILS SYSTEM وهو المعيار الذي يتم بموجبه تصنيف فئات المجتمع. فتساوي جميع الفئات سلبا أو إيجابا لا يتوافق والسياسات القائمة.
إن هذا التمايز النسبي هو الدافع وراء الوقوف بصلابة ضد أية محاولة لإصلاح الأجهزة الحاضنة للتمييز. فنظام الامتيازات قائم على حسابات الربح والخسارة ضمن مفهوم شراء الولاءات. فالولاء المدفوع الأجر الذي تتحدث عنه بعض القوى المتمترسة خلفه يمكن ان يتحول الى نقيض عندما تتعارض الأمور مع مصالحها، والمفارقة ان قوى الاستئثار تتوقع من الفئات المهمشة القبول بالأمر الواقع وتقديم صكوك الطاعة للاجهزة الحاضنة والمسئولة عن مآسيها. في حين ان القبول بالأمر الواقع له متطلباته واهمها استيفاء حقوق المواطنة، وهذا ما عبر عنه سمو الأمير طلال بن عبدالعزيز آل سعود في مقابلة له على قناة «الحرة» مساء الاثنين (4 فبراير/ شباط 2008) حين اكد ان لكل فئة من المواطنين حقوقا متساوية، فالمساواة في الحقوق تسبق المطالبة بتأدية الواجب. فإذا كان الواجب قد استوفي في مواقف وطنية متعددة، فما هي مبررات سلب حقوق المواطنه؟
سؤال سيبقى قائما حتى نتخطى أوهام عقدة الشك والخوف ونؤمن ان وحدة الداخل لا يجب التضحية بها بالتعويل على أحلاف الخارج فقط. وإلى ذلك سنستمر في البحث عن الولاء في قلوب الغرباء الذين أوكلناهم مهمة حماية انفسنا من انفسنا وادارة أجهزتنا، لأننا ببساطة ابتلينا بعقدة شك مزمنة تجعلنا نثق أكثر في غير انفسنا. فهل من علاج لعقد نفسية مزمنة استمدت من تراث غابر لكنه يتجدد؟
إقرأ أيضا لـ "عبدالحسن بوحسين"العدد 1993 - الثلثاء 19 فبراير 2008م الموافق 11 صفر 1429هـ