هواجسي تتزايد ومخاوفي تتراكم كلما جرى الحديث عن تنظيم حرية الصحافة ووضع ضوابط لحرية الإعلام... أتحسس رأسي وأشحذ أسلحة فكري وحواسي، فتنتفض قرون استشعاري وأسن قلمي، كلما قرأت أو سمعت حديثا عن إعداد تشريعات أو تنظيمات جديدة للصحافة والإعلام، فقد عودتنا حكوماتنا أن نخاف كلما تحدثت عن ضوابط وتنظيم وضبط وتصحيح المسار وتصويب الاتجاه، إلى آخر هذه العبارات المموهة!
كان هذا هو شعوري الحقيقي وأنا أحضر الاجتماع الاستثنائي لوزراء الإعلام العرب، يوم 12 فبراير/ شباط 2008 بمقر الجامعة العربية... اجتماع استثنائي لإصدار وثيقة «مبادئ تنظيم البث الفضائي الإذاعي والتلفزيوني في المنطقة العربية»، فالوثيقة صاغها خبراء في دهاليز حكومية، وطلبها وزراء الإعلام العرب على وجه السرعة، فأقروها جميعا باستثناء تحفظ قطر عليها.
اللافت للنظر منذ الوهلة الأولى، أن الوثيقة العربية الحكومية، باغتت الصحافيين والإعلاميين والقنوات الفضائية، التي تستهدفها الوثيقة. لم يشارك أو يناقش أو ينقد أحد منهم ما رأى الرسميون العرب أنها الوسيلة المثلى «لضبط الانفلات في المحطات الفضائية»، كما يلفت النظر أن عشرة وزراء إعلام عرب تحدثوا في الجلسة الأولى والأخيرة، فأشادوا وامتدحوا جميعا بلا استثناء عن حرصهم على حرية الإعلام، وأكدوا أن الوثيقة جاءت لتصوب المسار تدعيما لحرية الإعلام، وليس كما يدعي المشككون أنها تهدف إلى التضييق على الفضائيات العربية!
قلت لنفسي: هؤلاء وزراء مسئولون يؤكدون علنا وفي جلسة متلفزة احترامهم لحرية الإعلام، فلماذا المخاوف والهواجس التي ركبتني هذا الصباح؟ إذا لنقرأ وثيقة تنظيم البث الفضائي لنعرف الحقيقة!
اثنا عشر بندا ومقدمة هي قوام الوثيقة، وبالقراءة الأولى تكتشف أن معظمها مبادئ عامة ومعايير معروفة، صيغت بعبارات تحتمل أكثر من معنى، فمن الذي يعترض على معايير مثل شفافية المعلومات، والالتزام بحرية التعبير وبمبدأ السيادة الوطنية وبضمان حق المواطن العربي في متابعة الأحداث الوطنية والإقليمية والدولية الكبرى و «خصوصا الرياضية»، والالتزام بحقوق الملكية الفكرية، وباحترام خصوصية الأفراد وبالامتناع عن التحريض على الكراهية والتمييز، والتحريض على العنف والإرهاب... إلخ.
تمتلئ الوثيقة إذا بمثل هذه المعاني والعبارات العامة، التي يمكن أن تقرأها في أي ميثاق شرف، أو تسمعها في محاضرة أولية لطلاب الصف الأول من كليات الصحافة والإعلام... فما الذي أثار مخاوفي وبث هواجسي؟!
الذي يثير المخاوف والهواجس، هو استيعاب التجارب السابقة والمتراكمة، فما من مرة تتحدث الحكومات عن حرية الصحافة والإعلام، إلا وتقصد شيئا في بطن الشاعر تخفيه عن الأعين في البدايات، ثم تباغت به الكل وخصوصا الصحافيين والإعلاميين والسياسيين، وما من دستور في بلد عربي إلا وينص صراحة على حرية الصحافة والإعلام وحرية استقاء المعلومات، لكن ما من بلد عربي إلا وتجد فيه قوانين تحد من هذه الحريات، بل وتنص على عقوبات مشددة وسالبة للحرية، مثل عقوبات الحبس في قضايا الرأي والنشر، وهناك بالمناسبة قوانين في 17 دولة عربية تنص على هذه العقوبات تحديدا.
الذي يثير المخاوف والهواجس هو الصياغات المطاطة حمالة الأوجه المتعددة، التي تسمح بالشيء ونقيضه أحيانا، وتسمح باستغلال بنود هذه الوثيقة الجديدة للتضييق على حرية الإعلام الفضائي المستهدف، وخصوصا إذا لاحظنا المناخ العام السائد هذه الأيام، والذي في ظله تشكو حكومات ونظم عربية كثيرة مما تسميه «انقلابات الفضائيات»، أو تجاوز الصحف الخاصة والمستقلة، أو تجرؤ الصحافيين والإعلاميين على هيبة ونظام وسلطة الحكم، وهي التهمة التي يحاكم بسببها أربعة رؤساء تحرير مصريين الآن!
وأظن، وبعض الظن ليس إثما، أن ما أفرزته السنوات العشر الأخيرة، سنوات ثورة المعلومات وتكنولوجيا الاتصال وحرية الإعلام عبر العالم، من صدور صحافة جديدة وإعلام مفتوح عبر السماوات، معظمها صحف وفضائيات خاصة رفعت سقف الحرية وفتحت ملفات كانت محرمة وأثارت مناقشات وحوارات بشأن موضوعات اكتسبت قداسة ما في يوم ما، فكسرت حدودا لم يكن مسموحا بتجاوزها من قبل... كل ذلك هو السبب الرئيسي الذي أقلق الحكومات العربية، فسارعت إلى «لملمة هذه الفوضى الصحافية والإعلامية» وإعادة القبضة الحكومية عليها حتى لا يتسع الفلتان إلى ما هو أخطر كما تتصور!
ولكي ندرك حجم ما نناقشه، فإننا نقول إن هناك أكثر من 400 فضائية عربية تبث ليل نهار هذه الأيام 80 في المئة منها ملكية خاصة و20 في المئة فقط في الملكية الحكومية، وبينها 22 قناة مصرية فقط، ومعظمها تبث على قمري عرب سات ونايل سات والأقمار الأوروبية الكثيرة.
ومن هذه الأرقام نعرف أن القبضة الحكومية العربية على الفضائيات الحالية والقادمة تفككت، ولم تعد قادرة على التحكم فيها أو التأثير عليها بصورة مباشرة كما كان الحال في الماضي، وهذا ما حدث أيضا مع الصحافة الخاصة التي انتشرت بسرعة شديدة خلال السنوات الأخيرة، وسحبت من رصيد الصحف الرسمية أو القومية، لأنها مع الفضائيات، قدمت خدمة إعلامية للقارئ والمشاهد لا يجدها في الصحف والتلفزيونات الرسمية.
وعلى رغم تعدد واتساع خريطة الخدمة الإعلامية هذه، في الصحف والفضائيات الخاصة، فإن ما تقدمه من أخبار ومعلومات وتغطية وبرامج سياسية كان الأبرز، والأكثر جاذبية وتأثيرا في الرأي العام المتعطش للحرية والمعلومات الصادقة، بعيدا عما تقدمه الصحف والفضائيات الحكومية من أخبار رسمية ومعلومات بروتوكولية وبرامج محنطة جامدة بعيدة عن الاهتمام العام.
هكذا ارتجت الساحة الصحافية الإعلامية، بنماذج جديدة وجريئة كسرت المحرمات كما قلنا، بعضها جاء موضوعيا باحثا عن تلبية احتياجات القارئ والمشاهد، وبعضها الآخر تجاوز باحثا عن الإثارة والانتشار، وصولا لإشاعة الدجل والشعوذة والإباحية، انتهاء بالتحريض والحض على كراهية الآخرين والتعصب الديني الميقت!
في مواجهة هذه الانفتاحة الصحافية والإعلامية، التي كشفت «الإعلام الحكومي» وسرقت منه الأضواء وتجمع حولها الرأي العام، استيقظت حكوماتنا «الرشيدة»، وقد أصيبت في كبريائها السلطوي، ما بين النقد الموضوعي والتشهير غير الموضوعي، فاستغلت بعض التجاوز والتشهير الذي حدث على صفحات بعض الصحف أو شاشات الفضائيات، لكي تنقض على كل ما هو قائم وتحاول استعادة قبضتها الحديد على ما تراه انفلاتا صحافيا وإعلاميا، مستخدمة القوانين المتشددة والعقوبات المغلظة مرة، ومستخدمة مواثيق الشرف ووثائق التنظيم وضبط الإيقاع مرة ثانية... وهنا بالضبط تقع الوثيقة الجديدة التي أصدرها وزراء الإعلام العرب في الأسبوع الماضي، بعدما كانوا قد أصدروا ميثاق الشرف الإعلامي العربي، لاستكمال ضبط الأمور والتحكم في الحريات، فمن استطاع الإفلات من القوانين تطارده الوثائق والمواثيق، فأين المفر للصحافيين والإعلاميين، بينما البحر أمامهم والحكومات «غير الرشيدة» وراءهم وفوقهم!
أبدي مخاوفي وأعبِّر عن هواجسي، وفي ذهني تجارب سابقة وعاصفة، وقوانين بل ترسانة قوانين معادية لحرية الصحافة والإعلام، وعقوبات تصل إلى الحبس في قضايا النشر والرأي، ومطاردات في بعض البلاد العربية تصل إلى الاعتقال والإخفاء القسري والاغتيال، وانتهاكات لحرية الرأي والتعبير، تضع الدول العربية جميعا في أسوأ سجل دولي... للأسف!
أمامي تقريران حديثان صدرا قبل أيام عن حرية الصحافة والإعلام في العالم، أحدهما التقرير السنوي للجنة الدولية للدفاع عن حرية الصحافة، وثانيهما التقرير السنوي أيضا لمنظمة «مراسلون بلا حدود»، وكلاهما هاجم بشدة الأوضاع المتردية لأحوال حرية الصحافة والإعلام في الدول العربية، وقد استدرك التقريران الأمر بالنقد القاسي لوثيقة تنظيم البث الفضائي العربي، وكأنما كان الأمر يحتاج إلى مزيد من الاستنكار الدولي فضلا عن العربي، لكي نصبح ونمسي مدانين أمام أنظار العالم كله!
قد تنجح الوثيقة الجديدة في «ضبط الأمور»، وقد تفشل، لكن تظل معركة حرية الصحافة والإعلام، وحرية الرأي والتعبير، هي معركة كل مواطن يتطلع للحياة في ظل نظام ديمقراطي حقيقي...
خير الكلام... يقول الشافعي:
ومن الدليل على القضاء وكونه
بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 1993 - الثلثاء 19 فبراير 2008م الموافق 11 صفر 1429هـ