العدد 1993 - الثلثاء 19 فبراير 2008م الموافق 11 صفر 1429هـ

كوسوفو... والدولة «الميكرو»

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

استقلال إقليم كوسوفو الذي أعلنه البرلمان لاقى ردود فعل متباينة. بعض الدول دعم الاستقلال، وبعضها تحفظ، والبعض الآخر عارض انطلاقا من مخاوف متنوعة المنابت. الدول التي خالفت إعلان الاستقلال أبدت انزعاجها من الأسلوب الفوقي الذي تعامل به الاتحاد الأوروبي مدعوما من الولايات المتحدة. فالاتحاد لم يأخذ في الاعتبار تحفظات دول أوروبية تعاني من مشكلات أهلية وإقليمية ورأت في سياسة تشجيع الأقليات على الاستقلال خطوة غير مقبولة حتى لا تتحول إلى منهج في التعامل القانوني مع مناطق تتمتع بنوع من الحكم الذاتي. وعدم مراعاة مصالح هذه الدول دفع إسبانيا واليونان ورومانيا وبلغاريا إلى الاحتجاج ورفض الاعتراف باستقلال كوسوفو. الأمر نفسه ينسحب على الموقف الروسي الداعم لوحدة صربيا. فموسكو وجدت في الاستقلال خطوة انفصالية تعزز سياسة حركات انعزالية تطالب بالانقسام وتشكيل «دولة خاصة» تهدد أمن الدول الكبرى.

ردود الفعل المتباينة في داخل الاتحاد الأوروبي المعطوفة على رفض روسي - صربي لأسباب خاصة تتصل من بعيد بتلك العلاقات التقليدية بين الكنيسة الأرثوذكسية (الروسية - الصربية) والمصاهرة العرقية (السلاف) أعطت فكرة موجزة عن أزمة سياسية يرجَّح ألا تمر من دون تداعيات وتبعات. وهذه الأزمة لا تقتصر على الجانب الشرقي والجنوبي من القارة وإنما تمتد في حالات كثيرة لتشمل الكثير من المناطق في الجانب الشمالي والغربي من أوروبا.

كل القارة تقريبا معرضة للاضطراب والقلاقل والانقسامات في حال استمرت سياسة تشجيع قيام «دويلات صغيرة» تحت مظلة الدولة القومية التي استقرت نسبيا على جغرافيا أو لغة أو قومية أو دين منذ نهاية القرن التاسع عشر. ونهوض نموذج «ميكرو» الدولة العرقية/ الدينية الذي ارتسمت خطوطه الميدانية في البلقان عموما وبعد انهيار الاتحاد اليوغوسلافي في تسعينات القرن الماضي هدد للمرة الأولى فكرة الدولة القومية الموحدة التي تحتضن في إطارها السيادي مجموعات متنوعة من العرقيات والاتنيات. فالدولة «الميكرو» تعنى إعادة تأسيس الفكرة التوحيدية وشرذمتها على أساس الانقسام والتفكيك وعزل المجموعات المتعايشة في إطار الدولة القومية المشتركة في «دويلات» ذات طابع أقوامي أو مذهبي أو طائفي.

نموذج «الدولة الميكرو» اشتغلت عليه مؤسسات ومعاهد أميركية في ثمانينات القرن الماضي انطلاقا من رؤية استراتيجية تعيد النظر بالكثير من منطلقات الفكر القومي الذي شهد ذاك الرواج الايديولوجي في القرن التاسع عشر وأدى إلى نهوض دول كبرى نسبيا جمعت في إطارها الدستوري مجموعات غير متجانسة في تركيبها العضوي (القومي والديني) ولكنها متكيفة مصلحيا في محيط جغرافي موحد وبيئة ثقافية متسامحة.

هذا النوع من الدول القومية المؤتلفة بدأ يتعرض إلى مراجعات نقدية وأخذت المعاهد الخاصة في الولايات المتحدة تروج إلى نوع جديد من «الدويلات» يقوم على فكرة التطابق بين الهيئة السياسية والجماعة الأهلية. وجاء مفهوم الدولة «الميكرو» ليرد نظريا على تلبية حاجات مجموعات تشعر بالغبن أو التمييز أو التهميش سواء في أوروبا أو خارجها. وتعزز مفهوم الدولة - الميكرو سياسيا حين اتجهت القارة الأوروبية إلى تطوير علاقاتها من نظرية السوق (النقد والاقتصاد) إلى مستوى الاتحاد. فالاتحاد القاري يعني عمليا بدء التجاوز التاريخي لمرحلة الدولة القومية والذهاب بالعلاقات المصلحية إلى طور دستوري أعلى يدمج الهوية القومية بالهوية القارية.

اصطدمت فكرة الاتحاد القاري (الهوية الأوروبية الموحدة والمشتركة) باتجاهين متعاكسين يعارضان التقارب انطلاقا من حسابات مختلفة. الاتجاه الأول تمسك بالنزعة القومية الخاصة ورفض ايديولوجية الاندماج في اعتبار أن الهوية الأوروبية غير موجودة تاريخيا ولا يمكن أن تكون ذاك البديل الواقعي لتخلي الفرنسي عن فرنسيته أو الألماني عن ألمانيته أو الإسباني عن إسبانيته.

الاتجاه الثاني وجد في فكرة الاتحاد القاري مناسبة للانفصال عن الدولة الأم (القومية) وتشكيل استقلال خاص يرتبط مباشرة بالمركز الاتحادي من دون حاجة إلى المرور بالوسيط القومي الداخلي. وتحت مظلة الاتحاد القاري تحركت مجموعات أهلية (أقليات قومية) في بريطانيا (ويلز وسكوتلندا مثلا) وإسبانيا (الباسك مثلا) وبلجيكا واليونان وغيرها تطالب بالانفصال (الاستقلال) بذريعة أن وظيفة الدولة القومية استنفدت أغراضها السياسية ووظائفها التاريخية وبات بإمكان المجموعات الصغيرة تأسيس سيادة خاصة ترتبط مباشرة بالاتحاد القاري (الهوية الأوروبية) من دون المرور بالهويات الوسيطة (الفرنسية، الألمانية، الإيطالية، الهولندية وغيرها).

اتجاهان مضادان

اتجاهان متعارضان أنتجتهما الفكرة القارية. الأول تقليدي يرفض الاتحاد القاري بذريعة المحافظة على الهوية القومية، والثاني تقسيمي يؤيد الاتحاد (أوروبا) لأنه يسهل له فرصة الانفصال عن الدولة القومية.

أدى التعارض المذكور إلى تشكيل ثلاثة اتجاهات سياسية تتجاذب أوروبا المعاصرة. الأول توحيدي يطالب بتجاوز الدولة القومية وتطويرها إلى الاتحاد القاري. والثاني تقليدي يتمسك بالهوية القومية حتى لا تندمج بفكرة غير واضحة المعالم. والثالث انفصالي يرفض الدولة القومية ويطالب بتفكيكها إلى دويلات صغيرة (ميكرو) تتشابك عموديا بالمركز (العاصمة القارية).

تضارب الاتجاهات الثلاثة أضعف في السنوات العشر الماضية إمكانات تطوير فكرة الاتحاد القاري وأدى إلى فشل مجموعة مبادرات تشتمل على سلسلة قضايا خاصة. فهناك دول رفضت التوقيع على «الفصل الاجتماعي» من دستور الاتحاد. وهناك دول رفضت التخلي عن نقدها القومي والالتحاق باليورو. وهناك دول رفضت التوقيع على حرية التنقل (البشر والبضاعة) من دون رخصة أو إذن مسبق. وهناك دول مانعت تسهيل سيولة العمالة أو الإقامة من دون مراجعة هيئات محلية مختصة. وهناك دول صوتت على الدستور الأوروبي مقابل دول رفضت التصويت. وكل هذه الخلافات في وجهات النظر انعكست على أمزجة الجمهور وظهرت تباينات في استطلاعات الرأي والاستفتاءات الأمر الذي أحبط الكثير من الخطوات ودفع زعماء القارة إلى تجميد مبادرات أو تأجيلها لأن «الشعوب الأوروبية» غير ناضجة ثقافيا أو مؤهلة نفسيا للتخلي عن «الهوية القومية» أو «الدولة القومية» لمصلحة هوية غامضة عابرة للقارات (العولمة) أو عابرة للحدود (الاتحاد القاري).

هذا التجاذب الذي ارتسمت معالمة السياسية في مختلف اتجاهات القارة عرقل تطوير فكرة الاتحاد «ما فوق قومي» وجعل الخبراء يترددون في استكمال سياسة التسريع حتى لا تنقلب المشاعر إلى الضد. ولكن تأخر القطار التاريخي بالانتقال السريع من المحطة «القومية» إلى المحطة «القارية» أدى في المقابل إلى تسريع خطوات الانفصال وتشجيع حركات الأقليات إلى الانعزال والمطالبة بالسيادة القومية (الصغيرة) وتشكيل دويلات «ميكرو» من خلال الاستقلال عن الدولة الأم (الاتحاد القومي). وهذا الأمر ظهر بقوة من خلال الانفجار العنيف للاتحاد اليوغوسلافي، أو الانفصال السلمي (الطلاق الوردي) كما حصل في تشيكوسلوفاكيا إذ انفكت إلى دولتين (تشيخيا وسلوفاكيا).

النموذج اليوغوسلافي كان الأسوأ في تعامله مع تلك المتغيرات الدولية التي عصفت بتوازنات «الحرب الباردة» وولدت ترددات نظرية غير متجانسة بين اتجاهات وحدوية تريد تطوير الدولة القومية إلى اتحاد قاري وأخرى انفصالية تضغط باتجاه تقسيم «الاتحاد القومي» إلى دويلات «ميكرو» تأخذ استقلالها من خلال التواصل والارتباط المباشر مع القطب القاري.

ما يحصل في البلقان خطير جدا لأنه يروج باسم الحرية والاستقلال وحقوق الإنسان لفكرة الدويلة الصغيرة (الميكرو) من دون انتباه لمصالح دول الجوار وتأثير علاقات الجيوسياسية على المحيط وما يفرضه من شروط موضوعية على مستويات مختلفة من حرية التنقل والمرور إلى حقوق الجار على جاره وحقه في ضمان مخاوفه. وهذه الحساسيات تفسر إلى حد معين تلك الأسباب التي دفعت إسبانيا واليونان وصربيا وبلغاريا ورومانيا إضافة إلى روسيا إلى التوافق على أبداء تحفظات على الأسلوب الفوقي الذي قرره برلمان كوسوفو وإعلانه الاستقلال بعيدا عن المحيط الجغرافي وتوازن المصالح.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1993 - الثلثاء 19 فبراير 2008م الموافق 11 صفر 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً