إعلان برلمان كوسوفو استقلال الإقليم عن صربيا أعاد التوتر السياسي إلى خريطة البلقان. فهذه المنطقة الوعرة في تضاريسها الطبيعية والبشرية كانت ولاتزال منذ القرن الرابع عشر بؤرة العنف في أوروبا، وهي شكّلت على مدار القرون الستة الماضية خط تماس بين الامبراطوريات في مواجهة السلطنة العثمانية. وبعد انسحاب السلطنة وتراجعها وتفككها استمرت هذه المنطقة الجبلية تولّد حركات عنف تلونت بالأديان والقوميات والطوائف والمذاهب.
مشكلات البلقان التي لا تنتهي تحولت منذ نهاية الحرب العالمية الأولى إلى نموذج سياسي للإشارة إلى مناطق القلاقل والاضطرابات والعنف. ففي هذه الدائرة نهضت في القرن التاسع عشر حركات استقلال اتسمت بالطابع القومي العنيف ضد العثمانيين. وفي مطلع القرن العشرين شهدت المنطقة تنافسات امبراطورية أدت إلى توتير القارة الأوروبية وصولا إلى التسبب بإشعال الحرب العالمية الأولى حين أطلق متطرف صربي النار على ولي عهد النمسا خلال زيارة كان يقوم بها لسراييفو.
وبسبب هذه التوترات والانقسامات استخدم مصطلح «البلقنة» لوصف كل منطقة تعاني من تشققات وأزمات متواصلة. وباتت «البلقنة» تعني في العلوم السياسية المعاصرة الانقسام والتفكك والفوضى واستحالة قيام دولة.
هذا الوصف السياسي استقر نسبيا في نهاية الحرب العالمية الثانية حين نجح الماريشال جوزف تيتو في إلحاق كوسوفو بالاتحاد اليوغوسلافي ودمجه عنوة مع أقاليم مقدونيا ومونتينيغرو (الجبل الأسود) والبوسنة وكرواتيا وسلوفينا. وشكل الاتحاد مظلة جوية لحماية الأقليات في إطار قبضة صربية (سلافية) كرواتية. ونجحت هذه المظلة التي استفادت من نمو «الحرب الباردة» بين المعسكرين الشرقي والغربي في تكوين حال من الاستقرار السياسي بعيدا عن تشنج العلاقات بين واشنطن وموسكو.
ساهمت «الحرب الباردة» في توفير ذاك الملاذ الآمن للاتحاد اليوغوسلافي وبدأ زعيم الاتحاد تيتو تأسيس «خط ثالث» بين الرأسمالية والشيوعية أدى لاحقا إلى اطلاق منظمة «دول عدم الانحياز» التي ضمت إلى يوغوسلافيا مصر (جمال عبدالناصر) والهند (جواهر نهرو) وإندونيسيا (أحمد سوكارنو). ونجح الحلف الرباعي في تأسيس منهج دول عدم الانحياز أو «الانحياز الإيجابي» في مؤتمر عقد في باندونغ لتأكيد وجود خط مستقل عن تجاذب القوتين العظميين.
مظلة دول عدم الانحياز لم تستمر طويلا بعد أن أخذت الدول الكبرى تزعزع أركانها دولة بعد أخرى. فإندونيسيا تعرضت لانقلاب عسكري أطاح بالزعيم سوكارنو وارتكبت ضد أنصاره مجزرة هائلة قدر ضحاياها بنحو مليون نسمة. والهند تعرضت لاهتزازات سياسية بعد رحيل نهرو وأخذت تواجه معارك حدود مع الصين (التيبت) وباكستان (كشمير). وعبدالناصر واجه أزمة كبرى بعد حرب يونيو/ حزيران 1967 أدت إلى إضعاف نفوذه العربي. واستمر تيتو وحيدا ينازع للبقاء في السلطة وحماية وحدة الاتحاد من الضغوط الأميركية والسوفياتية المشتركة.
عودة البلقنة
هذا الوضع المستقر لم يستمر طويلا بعد رحيل تيتو وتفكك الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي مطلع تسعينات القرن الماضي. فانهيار «الحرب الباردة» كان بادرا من جانب دول أوروبا الشرقية وساخنا من جانب الاتحاد اليوغوسلافي. فهذا الاتحاد المركب ايديولوجيا من وحدة سياسية مصطنعة تجمع المسلم والمسيحي، الكاثوليكي والأرثوذكسي، الصربي والسلافي والكراوتي والبوشناقي (البوسني) والألباني شكل ذاك الحقل القابل للتلاعب من خلال تحريك النعرات والعصبيات. وأدى انهيار «الحرب الباردة» إلى انكشاف الاتحاد اليوغوسلافي وانحسار تلك المظلة الجوية عن أرض خصبة بالأقليات والاكثريات والمجموعات الأهلية وموروثاتها المشبعة بالحروب الإثنية والقومية والدينية.
نموذج يوغوسلافيا الجغرافي/ التاريخي كان واقعيا مؤهلا للانفجار في لحظة شهد فيها العالم تحولات دراماتيكية أدت إلى غياب قطب التوازن الدولي مع الولايات المتحدة. وبسبب غموض ايديولوجية تيتو وعدم انحيازها إلى الشرق أو الغرب تحولت يوغوسلافيا إلى «نعجة سوداء» في قطيع أبيض؛ لأنها فقدت الحماية الدولية ولم تكن هناك قوة محايدة قادرة على الدفاع عنها. وهكذا دخلت «الشاة» مسلخ التاريخ لتقطيعها جغرافيا وتوزيعها على مناطق نفوذ ترضي طموحات الدول الأوروبية.
آنذاك كانت أوروبا اتخذت خطوات حاسمة باتجاه تعزيز فكرة الاتحاد. كذلك بدأت ألمانيا عملية إعادة توحيد الشطرين في ظل سياسة اقتصادية ناجحة أعطت برلين ذاك الزخم المطلوب للتأثير على محيطيها الشرقي والجنوبي. وتحت سقف التنافس بدأ الاتحاد اليوغوسلافي يتعرض للتفكك والانهيار وخروج الأقاليم عن بعضها وضد بعضها.
كانت المفارقة التاريخية تشير إلى تعارضات سياسية غريبة إذ في الوقت الذي كانت دول أوروبا تتوجه نحو تعزيز فكرة الاتحاد أخذت دول الاتحاد اليوغوسلافي تنزلق بقوة وعنف نحو التصادم والانقسام والانفصال.
مفارقات التاريخ لا يمكن حصرها وخصوصا في منطقة غير مستقرة جغرافيا وتقليديا. والبلقان شكلت ولاتزال تلك البؤرة التي تتولد من تضاريسها عشرات الزلازل والحروب الأهلية الدائمة. فهذه المنطقة المضطربة تسير دائما عكس التاريخ. فحين تكون الدول في أوروبا تتجه نحو الانقسام تأخذ هضبة البلقان بالتجمع والتوحد وحين تتجه أوروبا نحو التوحد والتجمع تبدأ عواصف التفكك والتقسيم تزعزع وحدة الاتحاد اليوغوسلافي.
انهيار النموذج اليوغوسلافي (التيتوي) كان أقرب إلى الانفجار البركاني باستثناء سلوفينا التي استقلت سلما. وبعدها انفرط العقد حبة بعد أخرى فجاء دور كرواتيا (الكاثوليكية) فاندلعت المعارك مع الصرب إلى أن استقلت، ثم جاء دور البوسنة التي شهدت أعنف الحروب والمجازر ضد المسلمين منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. بعد ذلك اندلعت حرب الانفصال في مقدونيا، ثم كوسوفو والجبل الأسود.
تحولت يوغوسلافيا إلى سبع دول (دويلات ومناطق حكم ذاتي) واستقلت الأقوام عن بعضها تاركة «عدم الانحياز» ومفسحة المجال للتدخلات الدولية الروسية والأميركية والأوروبية. وإعلان برلمان كوسوفو استقلال الإقليم عن صربيا يشكّل الفصل الأخير من كتاب تاريخي يتألف من سبعة فصول.
عاد البلقان الآن إلى حاله السابقة. فالكل خسر والكل اكتسب دولة خاصة و «مستقلة». وكل دولة «غير قابلة للحياة» وتحتاج دائما إلى مساعدات فضلا عن حمايات عسكرية من الولايات المتحدة أو حلف شمال الأطلسي لضمان أمنها. وهذا يعني سياسيا أن ملف البلقنة لم يخرج من عنق الأزمة ولايزال عرضة للتأرجح والاضطراب عند حصول أي تحول أو متغير في التوازنات الإقليمية والدولية.
اعتراض روسيا على إعلان استقلال كوسوفو ليس مسألة تفصيلية. واحتجاج صربيا على الانفصال لا يمكن قراءة أبعاده الجيو سياسية إلا بعد حين. فالملف ساخن وهو يشير إلى احتمالات سلبية في بيئة ثقافية غير مستقرة وتمتلك تقليديا عناصرَ موروثة مشحونة بالتعصب والاقتتال.
الحل التقسيمي الذي سارت شعوب البلقان في قنواته الأقوامية ومسالكه الدينية أشبع المنطقة بالحروب والمجازر والدمار العمراني والبشري. ومثل هكذا حلول دموية يرجح ألا تستمر دائما؛ لكونها تؤسس خطوط تماس ساخنة تشجع على الاقتتال في حال عودة «الحرب الباردة» إلى المشهد الدولي.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1992 - الإثنين 18 فبراير 2008م الموافق 10 صفر 1429هـ