ضمن ما ينفثه الشعار؛ يحق لحزب الله أن يصف مقتل قائده العسكري عماد مُغنية بأنه «بشارة عظيمة بالنصر الآتي» وأن ما قام به الكيان الصهيوني ما هو إلا «حماقة كبيرة». وضمن كَمَدِ الشعور يحق للكيان الصهيوني أن يصف مقتل الحاج رضوان بأنه «إنجاز استخباري غير مسبوق» وأن ما تلقاه حزب الله لم يكن أقل من «ضربة بالقرب من الرأس» وما بين نفث الشعار وكمد الشعور يستطيع حزب الله أن يجترح لنفسه صنعة مميتة تقلب شعاره شعورا، وتحول شعور الكيان الصهيوني إلى شعار أجوف.
بالتأكيد، فإن المسيرة الجهادية للحزب منذ ستٍ وعشرين سنة تنضح بخرمشات أنيابه على ظهر الجيش الصهيوني وقُمرته السياسية الليكودية أو العمالية، حين اخترق شفرة هواتف وزراء حكومتي باراك وشارون، واستدرج عقيد الاحتياط الحنان تننباوم إلى لبنان وأوقع به، وسَيَّر طائراته الاستطلاعية على الجليل الأعلى، واصطاد أيهود غولدفاسير وإلداد ريغف من جيش دان حالوتس في عملية محكمة، ودك العمق الصهيوني بالصواريخ خلال حرب يوليو/ تموز، لكن المعركة كما يعرفها المتهارشون بالأطواق نصر وهزيمة، وقد تتفاوت الأثمان والخسائر في كل معركة، وقد يعاجل الخصوم بعضهم بالرد وقد يباعدونه وفقا للمعطيات والتقديرات التي تهبهم نتائج نوعية ومؤلمة للخصم، ومن له ذاكرة جيدة ربما يستحضر أن رد حزب الله على اغتيال السيدعباس الموسوي كان بعد ثلاثة أعوام تقريبا، لكنه كان موجعا حين سوِّي المركز الثقافي الصهيوني في بوينس آيرس بالأرض ومعه خمسة وثمانون قتيلا ومئتا جريح.
في اغتيال القائد العسكري في حزب الله - لبنان عماد مغنية، أرقب ممرا معقدا من الصراع سينشطر لا محالة ليأخذ أبعادا لا توازي مكانة الضحية بالنسبة إلى الإيرانيين والسوريين ولحزب الله وللفصائل الفلسطينية فقط بل بما يتسق ومفاعيل هذا الضم العنيد من التحالف، في قبالة مشروعات أخرى إقليمية ذات امتدادات دولية. أقول هذا الكلام وكلنا يعلم أن هذا الاغتيال الذي انتفض له العالم في أقل من ست ساعات، ليس حادثا عاديا وقع في جغرافية محددة، هو في الحقيقة إعلان حرب غير مرئية ستكون مرة وقاسية، وستتورط فيها أطراف عدَّة، لأن هذا الانتهاك هو في الأساس انتهاك لحرمة خصم لايزال ينشط في معركة، بل إن نشاطه آخذ في التعاظم، وكلما سنحت الفرصة لمراقبته سياسيا سواء من خصومه أو مراقبيه تبيَّن حجم الزحاف في مناوراته ونشاطه.
فضمن صيغة الممانعة التي تتمترس حولها إيران وسورية وحزب الله وحماس والجهاد الإسلامي وبقية الفصائل الفلسطينية تبدو هذه الجبهة وكأنها محشورة في فرو دب، لكنها بلاشك متأسسة أولا على أرضية أخلاقية صلبة نابعة من عدالة القضية من جهة، والبناء التراكمي لصدقية الفعل من خلال حماقات العدو وإرهابه من جهة أخرى.
وثانيا، رفضها الصريح للقدرية السالبة وتمرير مشروعات كانت عدمية وأريد لها أن تكون واقعا، وهي تقول ضمن هذا السياق إنها ترفض ذلك مثلما رفض تشرشل أن يعترف بالقوة النازية في تحطيم امبراطوريته وتركيع عاصمة الضباب إبان الحرب العالمية الثانية. لذلك، فمن حق اللبنانيين أن يرفضوا شرائط حدودية أو جيوبا جغرافية تقام لتأمين أحزمة جيوبوليتيكية في جنوب البلاد، وهي (صيغة الممانعة) ترفض ذلك مثلما رفض شارل ديغول أن يعترف بحكومة بيتان العميلة لأدولف هتلر، لذلك فمن حق الفلسطينيين ألا يقبلوا بواقع ظالم لم تمضِ عليه سوى ستة عقود أزاح خلالها قرار استعماري شعبا كاملا لصالح كتل بشرية مستوردة من الشرق والغرب.
وثالثا، الدفع لتمييع أية تسويات استراتيجية فيما يخص القضية الفلسطينية عبر توريط الداخل الفلسطيني بمشروعات لا تخدم تلك التسويات (تقوية حماس مثالا) وهو ما يعني أيضا كتحصيل حاصل توريط دول الطوق التي انتظمت دول منها في سلام مع الكيان الصهيوني (مصر والأردن) وهي ملتزمة في اتفاقياتها مع تل أبيب على شواغل الداخل الفلسطيني كما تنص على ذلك اتفاقية كامب ديفيد التي وقعها الرئيس أنور السادات مع مناحيم بيغن.
ومن جهة أخرى، إنشاء جدران عازلة تمنع من تطبيع الواقع من دون أثمان أو على غرار ما حصل بعد حرب السويس عندما شُكل حلف الهوامش الذي نشط ضد الراديكالية العربية والحركة اليسارية في الشرق الأوسط، بمبادرة من رئيس حكومة الكيان الصهيوني آنذاك، ديفيد بن غوريون، للقفز على دائرة الدول العربية المعادية بواسطة إنشاء حلف مع إيران وتركيا وإثيوبيا (بحسب تعبير حجاي رام) وقد تكون الصيغة ضمن هذه المعادلة مختلفة، لكنها بالتأكيد ليست مستحيلة عندما يتم صوغها بأشكال أخرى من الحلفاء، وقد يؤخذ تصريح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الأخير الذي أدلى به خلال مؤتمر صحافي امتد أكثر من خمس ساعات عندما رفض عنوان يهودية الكيان الصهيوني، متسائلا عن مصير السكان الأصليين، وهو موقف لافت ومضاد للرغبة الأميركية والصهيونية، وخصوصا أن موسكو أبقت على علاقاتها مع حركة المقاومة الإسلامية (حماس) فضلا عن علاقاتها المتينة مع الإيرانيين الذي يستعينون بهم في مشروعهم النووي، ومع السوريين الذي يعتمدون عليهم في السلاح ولإيصال الأساطيل الروسية إلى البحر الأبيض المتوسط.
أعتقد بأن تحالف الممانعة استطاع ولغاية الآن أن يكوِّن له اصطفافا جيدا متجاوزا المنغصات العقيدية المنغلقة (علماني - إسلامي)، (شيعي - سني)، وبالتالي فإن فضاء عمله يشكل ضمانة لنجاح تجارب أخرى أو على الأقل توسيعها. وعليه، فإن الكثير من المراقبين يعتقدون بأنه لم يعد هناك مجال أكثر الآن للتفكير بما يجب القيام به في ظل تسارع الأحداث الإقليمية والعالمية، فالصراع على النفوذ غير منتهٍ ليس فقط في منطقة الشرق الأوسط، فروسيا والولايات المتحدة يتجاذبان المصالح والنفوذ على القوقاز، والصين والهند على جنوب القارة، واليابان وكوريا الشمالية على أمن الشرق الأدنى، والسودان وتشاد على وسط إفريقيا، وإثيوبيا واريتريا على هضاب القرن الإفريقي، وبالتالي فالخيارات متعددة في هذا المجال، وربما يضطر فيها التحالف الممانع إلى الإخلال بنظام المصالح القائمة وتجيير ذلك لخدمة معادلات جديدة قد تكون أفيد خلال المرحلة المقبلة.
في الخطة الأبعد تسعى إيران إلى تكريس حضورها الإقليمي والدولي عبر المشروع النووي والصواريخ بعيدة المدى والقدرة على توفير الطاقة، وسورية إلى إبقاء مفاتيح الحل اللبناني بيدها، وتأخير سلامها مع الكيان الصهيوني دون تلبية شروطها، وحزب الله عبر إبقاء سلاحه ومناشطه العسكرية والأمنية قائمة لحماية جبهته الأمامية وإعطاء رسائل لمن هم في الخلف، وحماس والجهاد الإسلامي عبر رفض الذوبان في أية مشروعات فلسطينية - فلسطينية أو فلسطينية - صهيونية دون تعديل سقف الدولة الفلسطينية ومصير القضية برمته... وبين كل ذلك يبقى التساؤل: كيف سيوجه هذا المحور قوته؟ وماذا سيكسب؟ وكيف سيتعامل مع منتهكي حدوده السياسية والأمنية؟
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 1991 - الأحد 17 فبراير 2008م الموافق 09 صفر 1429هـ