ماذا لو ردّ حزب الله على جريمة اغتيال القائد العسكري عماد مغنية؟ فرضية الرد ليست مستبعدة بعد خطاب السيد حسن نصر الله في يوم التشييع. فالكلام واضح ولا يحتاج إلى عناء لقراءة أشاراته. والانتباه الأميركي - الإسرائيلي لمردود الخطاب وما أعقبه من استنفار عام للقوات الجوية والبحرية والبرية وتعزيز الحراسات على السفارات والمؤسسات والمراكز والمعاهد في العالم ما هو إلاّ الدليل القاطع على التعامل الجدي مع الكلام.
الرد ليس مستبعدا، ولكن كيف ومتى وأينَ؟ كيف يعني أسلوب الرد. متى تعني توقيت الرد. أين تعني مكان الرد. الأسلوب مهم، التوقيت مهم، والمكان مهم. نبدأ من المكان (أينَ). الاحتمالات مفتوحة في اعتبار أنّ «إسرائيل» قررت فتح المعركة على أبواب عابرة للحدود. فهناك مساحة شاسعة عالميا وهذا يتطلب أخذ المواجهة من نطاقها الجغرافي إلى مناطق قد تكون بعيدة أو قريبة. واتساع المساحة العالمية يضع لبنان ضمن الجغرافيا في اعتباره يشكّل تلك الساحة المكشوفة والمفتوحة لتوجيه الرسائل أو التصدّي للمشروعات الدولية والإقليمية الكبرى. لبنان إذا ليس بعيدا عن مكان الرد حتى لو اتسع نطاق جغرافيا المواجهة.
المواجهة المفتوحة تطرح السؤال بشأن الأسلوب (كيف). كيف سيكون أسلوب الرد؟ هناك احتمالات مفتوحة ولكنها محكومة بدورها بشروط المكان. مكان الرد يحدد الأسلوب وطبيعته وأهدافه. وبما أنّ لبنان لايزال محطة تجاذبات دولية وإقليمية فلا يستبعد أنْ يكون واجهة الرد. وفرضية الرد من لبنان تقتضي تحديد طبيعية الأسلوب وهذا يمكن إدراجه ضمن ثلاثة احتمالات: الأوّل، التسلل والقيام بعملية دفاعية نوعية على غرار ما حصل في 12 يوليو/ تموز 2006. الثاني، التصدّي لدورية عسكرية على الحدود اللبنانية وتفجيرها. الثالث، قصف مستوطنة إسرائيلية في الأراضي المحتلّة.
الاحتمالات الثلاثة واردة نظريا ولكنها محكومة بدورها بشروط الجغرافيا السياسية في اعتبار أنّ الجنوب اللبناني في العام 2008 يختلف وضعه عمّا كان عليه في صيف 2006. الجنوب الآن «مدوّل» وتنتشر على شريطه الحدودي قوات متعددة الجنسية (يونوفيل) تتحرك تحت سقف القرار الدولي 1701. وتنتشر أيضا خلف «القبعات الزرق» قوات الجيش اللبناني (15 ألفا) في عمق جغرافي يمتدّ إلى 20 كيلومترا.
الانتشار الدولي - اللبناني يعطل لوجستيا إمكانات الرد البري أو على الأقل يفرض على حزب الله بعض الالتزامات التي لا يستطيع تجاوزها ميدانيا. وأخذ العراقيل في الاعتبار تزيد من صعوبات الرد المباشر من الحدود اللبنانية نظرا لوجود محاذير دولية نصّ عليها قرار 1701 الذي أوقف الحرب ولكنه لم يوقف إطلاق النار.
المعطيات المكانية تفرض شروطها على أسلوب الرد. وهذا ما يفتح الباب لقراءة احتمالات السؤال المتصل بالتوقيت (متى). متى سيكون الرد هو المفتاح الزمني لمعرفة طبيعة المعركة وحجمها وامتداداتها ومفاعليها وأبعادها وأطوارها وتداعياتها ومساحتها.
التوقيت مسألة مهمّة وهو إلى حدٍّ ما يقرر طبيعة المكان وأسلوب الرد. فالعامل الزمني يطرح مجموعة احتمالات لها علاقة بالجاهزية. فهل حزب الله في موقع يسمح له بحرية التصرّف ويمتلك تلك الإمكانات التي تحتاج إليها معركة مصيرية تتجاوز الحدود إلى الوجود؟ كذلك هل «إسرائيل» أصبحت بدورها جاهزة عسكريا ونفسيا ولوجستيا للرد على الرد وتحمّل النتائج المترتبة على تداعيات معركة قد تبدأ صغيرة وثم تتدحرج لتصبح كبيرة؟ وهل لبنان الصغير استعاد عافيته اقتصاديا وسياسيا وثقافيا لتحمل مواجهة مفتوحة يرجّح أن تكون أكثر سخونة من عدوان صيف 2006؟
الحرب المفتوحة كما هو ظاهر للعيان ستكون ثلاثية الأبعاد: حزب الله، و«إسرائيل»، ولبنان. وهي بدورها مشروطة بثلاثة أسئلة: كيف ومتى وأينَ؟. وبعيدا عن القراءة المنطقية للفعل ورد الفعل وزمانه ومكانه وأدواته لابدّ من الانتباه لمجموعة إضافات يفترض أخذها في الاعتبار حتى تكون صورة الموقف أكثر وضوحا.
«إسرائيل» حتى الآنَ لم تعترف رسميا بمسئوليتها عن جريمة الاغتيال ولكنها أبدت سعادتها وسرورها لما حصل في دمشق. سورية حتى الآنَ لم تحدد الجهة الفاعلة أو التي نفذت الجريمة بداعٍ أنّ التحقيقات الميدانية والجنائية لم تستكمل، وهي لم تتهم في تصريحات مسئوليها أو بياناتها الرسمية تلك الأطراف التي حددها حزب الله في بيانه. إيران تعاملتْ مع الجريمة بوصفها الطرف المقصود مداورة من الاغتيال ولم تتردد في إصدار مواقف تشير إلى مسئولية «إسرائيل» ودورها وأبدت استعدادها للمشاركة أو المساعدة في التحقيق للمسارعة في كشف الغطاء عن الفاعل أو المستفيد.
البعد الإقليمي
العامل الإقليمي (السوري - الإيراني) يلعب دوره في الضغط نفسيا على حزب الله. وهذا العامل من الصعب تجاوزه في حسابات الحرب والسلم. فهل ينتظر حزب الله مثلا صدور التحقيق السوري في صيغته الواضحة والنهائية؛ ليقرر في ضوء النتائج الملموسة طبيعة الرد أم أنه اتخذ خطوة التحرك بناء على معلومات خاصة تنطبق على مواصفات الطرف المسئول (المستفيد) من ذاك الفعل؟
موضوع العامل الإقليمي من الصعب تجاهله لرسم صورة الفاعل. ومثل هذا العامل يثير بدوره مجموعة أسئلة تتصل بطبيعة الرد الإسرائيلي والاحتمالات المتوقع صدورها من جانب حكومة أيهود أولمرت التي استنفرت قواتها وأطلقت تصريحات (صيحات) اشتملت في تضاعيفها على مؤشرات تدلّ إلى وجود اتجاه نحو تبديل قواعد اللعبة.
ماذا تقصد تل أبيب بتعديل قواعد اللعبة؟ هناك كما يبدو عناصر جديدة ظهرتْ على خط الهجوم الإسرائيلي تعطي صورة ليست بالضرورة متطابقة مع تلك المشاهد التي ظهرت في عدوان 2006. فالتلميحات الإسرائيلية تشير إلى خطة عسكرية تتجاوز حدود لبنان الجغرافية وتستهدف ربما توجيه ضربات جوية لمواقع سورية وإيرانية بذريعة أنّ حزب الله متحالف مع الدولتين ويقع تحت مظلة أمنية إقليمية واحدة.
هذه التلميحات الإسرائيلية التي تشير إلى توسيع الرقعة الجغرافية للحرب تعيد طرح الأسئلة باتجاه معاكس ونحو طهران ودمشق مباشرة. فهل إيران مستعدة للمواجهة الوجودية كما أعلنت عنها القيادة السياسية مرارا؟ وهل سورية جاهزة لتحمل تلك الضربات التي نالها لبنان عشرات المرات خلال العقود الثلاثة الماضية؟ الأجوبة النهائية تمتلكها طهران ودمشق في اعتبار أنّ قواعد اللعبة إذا تغيّرت فعلا ستكون لها عواقب مختلفة عن تلك المشاهد التي اقتصرت صورها على الساحة اللبنانية.
المسألة إذا معقدة في تضاريسها السياسية والطبيعية. فهي تفترض الآنَ مجموعة احتمالات أوسع من مساحة البلد الصغير جغرافيا. فالرد حين يأخذ أبعاده الإقليمية يفترض ضمنا أنْ تؤخذ الشروط والتداعيات في حسابات حزب الله وإمكانات تدحرج الحرب من مكان إلى آخر. وهذه الإضافات الجديدة على عناصر المواجهة المحتملة تضع لبنان في دائرة ضيّقة ووسط مساحة جغرافية ممتدة إقليميا.
فرضية الرد ليست مستبعدة ولكنها تخضع هذه المرة لمجموعة شروط تتحكّم في إدارتها حسابات إقليمية أوسع من الدائرة اللبنانية المغلوبة على أمرها. لبنان كما يبدو من ظاهر الصورة «لا حولَ ولا قوة له» ولكن دخول سورية وإيران على خط المعادلة يطرح أسئلة فورية عن مدى استعداد هذا المحور الثنائي للتعامل مع ما تدعيه تل أبيب عن تعديل قواعد اللعبة وما تعنيه المسألة من توسيع لجغرافية الحرب المفتوحة.
الحسابات الإقليمية هذه لابدّ أنْ تفرض شروطها الميدانية وربما سيأخذ بها حزب الله لإعادة قراءة الصورة التي بدأت تستقر عليها المنطقة في ضوء تجدد الكلام عن اتصالات أميركية - إيرانية في باريس وبغداد واتصالات أميركية - سورية في أنقرة وغيرها من العواصم. فمثل هذه الاتصالات «الفنية» و«التقنية» لا يمكن لها أنْ تحصل وتستمر وتنمو من دون تداعيات وتبعات.
اغتيال القائد مغنية في دمشق وجّه ضربة موجعة لرأس التنظيم العسكري الهرمي في حزب الله وأرسل أشارة سياسية تتطلب بعض الوقت لاحتواء رموزها ورصد تموجاتها. فالاغتيال جريمة سياسية بامتياز ويتجاوز في أبعاده الجانب الأمني وما ستكشفه التحقيقات السورية بهذا الشأن. الخوف الوحيد من تداعيات الجريمة المباشرة أنْ تكون خطة استفزاز وربما استدراج تدفع المقاومة نحو الغرق في المستنقع اللبناني وأزقته الطائفية والمذهبية... وبالتالي تعطيل إمكاناتها في الرد على جريمة اغتيال مغنية.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1991 - الأحد 17 فبراير 2008م الموافق 09 صفر 1429هـ