في الرابع من مارس/ آذار 1926، اصطحب شارلز بلغريف زوجته مارجو لبل باريت لينارد، والتي تزوجها من قبل شهرين فقط، في رحلة بحرية طويلة إلى بلد مجهول لا يعرف عنه شيئا وهو البحرين.
وهو البلد الذي ارتبط به مصيره طوال واحد وثلاثين عاما، عندما غادرها بعد أن وجدت الإمبراطورية البريطانية أن خدماته لم تعد مفيدة لمخططاتها ومصالحها، لكن الأهم هو أن تاريخ البحرين وما شهده من تطورات حاسمة، كان فيها بلغريف اللاعب الأول.
لقد شهدت البحرين في عهد بلغريف أحداثا جساما كان فيها صاحب القرار في توجيه الأحداث، واستطاع بما توفره الإمبراطورية البريطانية من إمكانيات وما ارتضاه الحكم نفسه، أن يتجاوزها ويخرج منها منتصرا، لكن أهم حدث وقضية تعاطى معها بلغريف، هي قضية هيئة الاتحاد الوطني والأحداث التي ترافقت مع العدوان الثلاثي ضد مصر، والتي استغلها الانجليز وبلغريف بالذات للإجهاز على هيئة الاتحاد الوطني، ونفي أو سجن قادتها.
وبذلك أحبط بلغريف فرصة نادرة لتوافق شعب البحرين وحكم آل خليفة، على إدخال إصلاحات في البلاد وتأكيد شرعية حكم آل خليفة والسير بالبلاد نحو الاستقلال قبل وقت مبكر من تاريخ المملكة، وهو ما نجحت فيه الشقيقة الكويت في ظل أميرها الراحل الشيخ عبدالله السالم الصباح، إبان الاستقلال والدستور الكويتي.
جرت محاولات كثيرة لتبيض صفحة شارلز بلغريف وتصويره بأنه رجل متنور قاد عملية تحديث في البلاد، وأن البحرين تدين له بتطورها في الكثير من الميادين مثل الإدارة، والتعليم، والصحة، والأشغال وفي الصراع العربي الذي جرى في البحرين ما بين الحكم من ناحية وهيئة الاتحاد الوطني من ناحية أخرى، فإن عددا من الكتاب، عمدوا إلى وضع اللوم على الهيئة في ما آلت إليه من تصفية، واعتبروا أن حركة الهيئة حركة اعتراضية على مشروع بلغريف التحديثي، فهل هذا صحيح؟ وأين إسهام بلغريف في تطوير البحرين في جانب وإسهاماته في تخلفها في الجانب الأهم وهو القصور السياسي والتحول الديمقراطي والاستقلال؟
وضعية بلغريف
جرى تصوير بلغريف وهو ما حاول هو أيضا أن يؤكده أنه مجرد موظف بدرجه مستشار لحاكم البحرين، وأن اختياره تم بمحض الصدفة، نتيجة قراءته لإعلان في صحيفة التايمز، لكن الصحيح هو أن السلطة البريطانية ممثلة بالمبجرديلي الوكيل السياسي في البحرين، والمقيم السياسي في الخليج الكولونيل بريدوكس ومكتب الهند في لندن ممثلا بالسر أرثر باشرمان، المختص بشئون الخليج والمستشار السياسي بوزارة الخارجية لشئون الهند، هم من اختاروه ليشغل هذه المهمة الحساسة بعد أن دققوا جيدا في سجله في خدمة الإمبراطورية البريطانية فيما وراء البحار وإمكانياته المعرفية والقيادية.
عمل المستشار شارلز بلغريف إلى جانب حاكمين من آل خليفة هما الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة والشيخ سلمان بن حمد آل خليفة، وعاصر عددا من المقيمين السياسيين في الخليج والوكلاء السياسيين في البحرين، وظل هو في موقعه لأكثر من ثلاثة عقود، وهو أمر غير معتاد لكبار الموظفين المدنيين البريطانيين، إلا من أثبتوا جدارة استثنائية في خدمة مصالح الإمبراطورية البريطانية.
يحاول شارلز بلغريف من خلال سلوكه في حضرة حاكم البلاد سواء الشيخ حمد أو الشيخ سلمان وكبار أفراد الأسرة الحاكمة، وفي اللقاءات الرسمية أن يظهر شديد الاحترام للحاكم ويناديه دائما بـ (سيدي)، ويعرف نفسه بأنه خادم سيده (Servent)، وهو ما حاول تأكيده من خلال يوميات (مذكرات بلغريف) ترجمه السيد مهدي عبدالله ونشرته دار البلاغة في بيروت العام 2002، لكن يومياته غير المنشورة، والتي أودعتها عائلته في مكتبه جامعة أكسفورد، تكشف عن شخصية مختلفة. فبالرغم من المحاذرة إلا أنه يصف الحاكم وكبار أفراد العائلة، وكبار التجار، وحكام السعودية وقطر بصفات مسيئة.
إن بلغريف أبعد ما يكون أن يكون موظفا بدرجة مستشار، بل كان على امتداد ثلاثة عقود هو الحاكم الفعلي المستبد، فهو المستشار ومسئول الموازنة والمالية والمشرف على التعليم والصحة والأشغال، وهو مسئول شئون النفط من جانب الحكومة أو المشرف على الجمارك والعلاقة مع التجار والقائد العام للشرطة، وكبير القضاة في المحاكم المختلطة، والمفاوض عن البحرين في العلاقات الإقليمية مع السعودية وقطر والكويت، بل وحتى في قضية الخلاف بين البحرين وقطر حول حوار. كما أن زوجته مارجو المشرفة على تعليم البنات وابنه جميس (حمد كما يدعى في البحرين) مسئول العلاقات العامة والإعلام لحكومة البحرين.
أن بصمات بلغريف واضحة في أي مشروع أو قانون أو جهاز حكومي أو قرار رئيسي سواء في الشئون الداخلية أو الإقليمية.
يعتقد بلغريف في أعماقه أن القدر ساقه ليقوم باسم الإمبراطورية البريطانية بعملية تحديث تدريجي لهذه البلاد، وفي ذات الوقت الحفاظ على حكم آل خليفة من أية أخطار داخلية أو إقليمية، ولا ننكر أنه أسهم بقسط في ذلك لكن الأهم هو أن بلغريف وهو ذو العقلية الاستعمارية التي قاد بها قواته في أفريقيا والسودان، والمتشرب بالثقافة الاستعمارية فقد كان في أعماقه ذو نزعة استعلائية في نظرته للبحرينيين، كأناس قاصرين لا يعرفون مصلحتهم وغير مؤهلين لإدارة شئونهم. وقد عبر عن ذلك في توارد خواطره وهو يغادر البحرين لآخر مرة ملقيا نظرته على الأرض التي حكمها طوال ثلاثة عقود، حيث عبر عن مرارته تجاه الطلبة الذين أدخلهم المدارس وخرجوا إلى الشوارع يتظاهرون ضده. كما عبر عن مرارته لنكران الجميل من قبل شعب سعى إلى تطويره. ويقارن بلغريف في مذكراته المنشورة وغير المنشورة عن الطفرة الواسعة التي قطعتها البحرين في عهده.
لكن ما يهمنا هنا هو موقف بلغريف من المعارضة السياسية، ومن هيئة الاتحاد الوطني بشكل خاص، وسلوكه تجاهها على امتداد الثلاث سنوات 54 - 1956 والتي انتهت بالمحكمة الشهيرة التي نظمها بلغريف في البديع وأصدرت الأحكام النافذة المبرمة على قادة الهيئة بالنفي للثلاثة وهم عبدالعزيز الشملان وعبدالرحمن الباكر وعبدعلي عليوات وسجن اثنين هما إبراهيم فخرو وإبراهيم موسى.
ما هو دور بلغريف في إحباط جهود الهيئة لجعل الانجليز ممثلين بالمقيم السياسي في الخليج والوكيل السياسي في البحرين للوقوف على الحياد، ولعب دور الوسيط بينهم وبين الحاكم وتشجيع الحاكم لقبول مشروعهم الاصلاحي؟
هل تصرف بلغريف كمستشار نزيه حريص على مصلحة البحرين كبلد وشعب وحكم أم تعمد تحريض الحاكم وتخويفه من الهيئة وقياداتها، وتضخيم خطر الهيئة على النفوذ البريطاني في البحرين والخليج، كامتداد لعدوهم التاريخي جمال عبدالناصر؟
لا يتورع بلغريف أن يصف قادة الهيئة بأنهم مجموعة من الفاشلين غير الكفؤين الطامعين إلى الزعامة. وقد وصف عبدالعزيز الشملان بأنه إبن عبد رقيق سبق أن نفي أباه إلى الهند في العشرينيات في حركة تمرد. ووصف عبدالرحمن الباكر بأنه تاجر فاشل، ترك بلده قطر، ليبحث عن زعامة في البحرين. وعبدعلي العليوات من أصل قطيفي والسيد علي كمال الدين من أصل عراقي.
يصف بلغريف صحيفة «صوت البحرين» بأنها أوراق دعاية، ويصف الصحافة التي صدرت في عهد الهيئة من «الميزان» و «القافلة» و «الخميلة» بأنها مجلات يحررها شباب تنقصهم المسئولية ويتصورون أنهم كلما كتبوا بصورة أكثر حدة كلما ازدادت مبيعاتهم.
وقد عمد بلغريف إلى إغلاق الصحف الوطنية الواحدة تلو الأخرى. والعجيب أن بعض مسئولي هذه الصحف أشادوا مؤخرا في ندوة عن بلغريف بالرجل ووصفوه ببطل التحديث والتنوير.
إن صحيفة «صوت البحرين» هي المنارة التي بثت الأفكار الوطنية المعادية للطائفية والتي أسهمت في قيام هيئة الاتحاد الوطني وبعض مسئوليها مثل عبدالرحمن الباكر وحسن الجشي هم من قيادات الهيئة.
طرحت الهيئة عدة مطالب، وقامت بتحركات سياسية وجماهيرية وحشدت الشارع ونظمت الجماهير في منظمات العمال في اتحاد العمال البحريني، والشباب في كشافة البحرين والسواقين في صندوق التأمين فما هو موقف بلغريف من ذلك؟
هل حاول تفهم ذلك وإقناع الانجليز والحاكم بعدالتها أو على الأقل قبول بعضها، والاتفاق مع الهيئة في منتصف الطريق؟
أم على العكس سخّفها وقلّل من شأنها، وخوّف الحاكم والإنجليز من عواقبها؟
1 - الطائفية:
إن من أهم عوامل انبثاق الهيئة عامل التصدي من رجالات البحرين الوطنيين الواعين للأحداث الطائفية المؤسفة خلال 1953، لكن بلغريف من خلال يومياته غير المنشورة يتبنى مخاوف الحاكم من خطورة التقاء السنة والشيعة، وقد اتبع بلغريف السياسة البريطانية فرّق تسد، في التعامل مع أي قضية أو خلاف بانفراد مع قيادات الطائفتين.
إقرأ أيضا لـ "عبدالنبي العكري"العدد 2287 - الثلثاء 09 ديسمبر 2008م الموافق 10 ذي الحجة 1429هـ