بدأ الاتحاد الأوروبي حملة بحرية بمشاركة سبع دول بقيادة أدميرال بريطاني لمطاردة القراصنة في القرن الإفريقي. وجاءت العملية ردا على هجمات أسفرت عن احتجاز سفن تجارية وبدأت بتهديد خطوط المواصلات والإمدادات النفطية في المنطقة الممتدة من بحر العرب إلى البحر الأحمر. الحملة الدولية جاءت ربما متأخرة لتعطي فرصة زمنية لانتشار ظاهرة كان بالإمكان منع حصولها لو توافر التنسيق الإقليمي في الوقت المناسب. وتأخر الدول الإقليمية في التحرك لحماية خطوط التجارة وغياب التنسيق بين الدول المعنية بالمخاطر الأمنية فتحا الطريق لنمو دعوات من الدول الكبرى تطالب بتشكيل قوات حماية دولية في دائرة صنفها «المكتب البحري الدولي» بأنها «أخطر منطقة شحن في العالم».
تدويل النظام الأمني لضمان الممرات البحرية وحماية سفن الشحن والصيد يضع المنطقة الممتدة من بحر العرب إلى باب المندب تحت مراقبة الحلف الأطلسي (دول الناتو) وأساطيل الدول الكبرى بذريعة عدم وجود تنسيق إقليمي يعتمد على معلومات وخرائط وقوات خفر سواحل لمكافحة القرصنة التي تنطلق من شواطئ الصومال الممتدة على ساحل يقدر طوله بـ 3700 كيلومتر.
التدويل الذي بدأ أمس ميدانيا بقيادة سبع دول من الاتحاد الأوروبي جاء يتوج سياسة تدحرجت خطوة خطوة منذ ثلاث سنوات. الخطوة الأولى بدأت حين وقع الرئيس الأميركي جورج بوش في العام 2005 وثيقة تضمن أمن الملاحة معتمدا على اتفاقين دوليين «اتفاقية سلامة الأرواح في البحار» و«اتفاقية المدونة الدولية لأمن السفن والمرافئ». الخطوة الثانية كانت صدور القرار 1838 عن مجلس الأمن الدولي في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي الذي أعطى صلاحية للدول الكبرى باستخدام القوة لمواجهة القراصنة بعد أن توسعت أنشطتهم ومخاطرهم في العام 2008. الخطوة الثالثة كان إعلان منظمات دولية مستقلة تعمل في مجال حماية الملاحة البحرية وحركة الشحن عن تشريع إجازات تعطي صلاحيات لشركات أمنية خاصة بملاحقة القراصنة وحماية السفن وخطوط التجارة.
القرصنة أعطت ذريعة للتدويل وفتحت الباب للتدخل من جهات مختلفة. فالناتو أعلن عزمه على إرسال أساطيل بحرية للحماية، والاتحاد الأوروبي شكل قوة تدخل تتألف من سبع دول بقيادة أدميرال بريطاني، وبوش وقع وثيقة قبل ثلاث سنوات تعطي صلاحية للقوات البحرية العسكرية بالتدخل بذريعة أن القرصنة وجه من وجوه الإرهاب الدولي، ومجلس الأمن أصدر قراره الدولي الذي يغطي قانونيا حق استخدام القوة العسكرية لمطاردة القراصنة، والمنظمات الدولية المستقلة وقعت عقود عمل مع شركات أمنية خاصة لملاحقة قراصنة الصومال ومطاردتهم إلى السواحل المكشوفة على طول القرن الإفريقي.
«بلاك ووتر» بحرية
أبرز الشركات الأمنية الخاصة التي دخلت على الخط وعرضت على الدول المعنية خدماتها للحماية من القرصنة البحرية كانت «بلاك ووتر» وهي الشركة المتهمة بتنفيذ «المهمات القذرة» و«التفجيرات» وقتل الأبرياء في العراق. فهذه الشركة الخاصة التي تعاقدت معها قوات الاحتلال الأميركي للقيام بمهمات خاصة بعد غزو بلاد الرافدين انتهت كما يبدو وظيفتها في العراق بعد انفضاح أمرها وقررت مغادرة البلاد بسبب انتهاء مدة عقدها في نهاية السنة الجارية وقبل البدء في تنفيذ «الاتفاقية الأمنية» التي أقرتها حكومة نوري المالكي.
شركة «بلاك ووتر» سينتهي عقدها مع الاحتلال في العراق بعد أقل من ثلاثة أسابيع لتبدأ بممارسة مهمة جديدة لا يستبعد أن تكون بتكليف من واشنطن. والمهمة الجديدة لابد أن تتوسع مع الأيام إذا تأخرت الدول الإقليمية في تنسيق مراقبتها الأمنية للممرات المائية وتطوير إجراءات تعزز الثقة باتجاه بناء قوة عسكرية تتعاون لضبط المنافذ والمعابر البحرية. فالدول الواقعة على شواطئ البحر الأحمر هي الأكثر تضررا من نمو ظاهرة القرصنة لما تحمله من مخاطر تحويل خطوط التجارة وتعديل مسارها الملاحي من باب المندب وقناة السويس إلى رأس الرجاء الصالح. التعديل ليس مطروحا الآن ولكنه قد يتحول إلى فكرة قابلة للتفاوض والتشريع إذا استمرت القرصنة تتوسع من دون مراقبة أو مطاردة.
احتمال تدويل خطوط التجارة وتعديل مسارها مسألة غير مستبعدة في المستقبل إذا استمر القراصنة يهددون عبور 1300 سفينة شهريا خط الملاحة الممتد من باب المندب والبحر الأحمر إلى قناة السويس والبحر الأبيض المتوسط. فهذا الممر المائي يعتبر من أهم خطوط التجارة البحرية لذلك استغلت شركات التأمين مسألة القراصنة لترفع الرسوم بذريعة المخاطر الأمنية بنسبة زيادة بلغت عشرة أضعاف عن السعر السابق. وزيادة عشرة أضعاف دفعة واحدة لحماية البضائع المحمولة تعطي إشارة إلى احتمال تفكير الكثير من الشركات البحرية بمراجعة حساباتها وإعادة تعديل مساراتها الملاحية حتى لا تتأثر أسعار السلع المعرضة للارتفاع في الأسواق الاستهلاكية.
المسألة إذا لافتة ولا تحتمل التأخير لأن القرصنة مشكلة مفتوحة ويمكن أن تكشف أمن الدول الإقليمية الواقعة على شواطئ البحر الأحمر امتدادا إلى طول ساحل القرن الإفريقي الذي يعاني من «فوضى هدامة» بدأت في العام 1991 بعد سقوط نظام محمد سياد بري وتجددت في العام 2006 بعد تقويض سلطة «المحاكم الإسلامية». فالفوضى تعطي ذريعة للتدويل وتقدم تغطية دولية للقوى الكبرى بالتدخل العسكري تحت مظلة حماية التجارة وخطوط الملاحة وسفن الشحن والصيد.
«القرصنة» هي الوجه الآخر للفوضى وهي سياسة اقتصادية متخلفة تتعايش في زمن مشترك مع «العولمة». وفي حال استمرت الفوضى في الصومال وهي مسألة مرشحة للتصاعد مع اقتراب موعد انسحاب القوات الأثيوبية فإن نموذج «العرقنة» غير مستبعد في القرن الإفريقي حين تبدأ شركة «بلاك ووتر» بالانتقال من بلاد الرافدين إلى بحر العرب.
تدويل شواطئ الصومال يمكن أن يتحول إلى مطلب عالمي تقوده شركات الملاحة والمنظمات المكلفة بتشريع قوانين التجارة البحرية في حال تأخرت الدول الإقليمية بالتنسيق الأمني وبناء قوة خفر سواحل مدربة ومجهزة تقنيا ومزودة بالمعلومات والخرائط وغيرها من معدات تستطيع تأمين التفوق العسكري لإعادة السيطرة الأمنية على ممرات ومنافذ مائية تعتبر الأهم والأخطر كما وصفها «المكتب البحري الدولي» في تقريره الأخير.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2287 - الثلثاء 09 ديسمبر 2008م الموافق 10 ذي الحجة 1429هـ