نلمس وجود جدية رسمية في الدفع بحل جذري للمشكلة الإسكانية، وما تحقق بالأمس إنجاز كبير يجب أن يثمن عاليا في كل الأوساط، وكذلك نزول الدولة عند طلب ممثلي الشعب بتوظيف العاطلين الجامعيين إثر توجيه ملكي يعد خطوة مهمة في طريق التصحيح، وبإمكان الدولة أن تتباهى أمام الرأي العام إذا قدمت إنجازا حقيقيا على هذين الملفين، لأن الإسكان والبطالة كانتا على الدوام عمودي الاضطراب الاجتماعي الذي يفرز تدهورا أمنيا.
الناس لا تريد شيئا من الحكومة سوى تطبيق مبدأ العدالة الاجتماعية، لأن هذا المفهوم هو كلمة السر للاستقرار الاجتماعي وللتحرك بقاعدة صلبة وواثقة نحو المستقبل، فلا يعقل أن نظل ننشغل بمشكلة مثل «التمييز» عن مهمة المشاركة في بناء الوطن، وغريب أن تستعلي الدولة على مبدأ الحوار، على رغم أنه قيمة حضارية عالية، وشكل من أنماط الممارسة الاعتيادية في كل الدول الديمقراطية.
يجب أن نتصارح، ولا نظل أسرى للماضي دائما، ومن الحكمة أن نجلس معا لا لنتحاكم ولا لنلقي الشتائم وإنما لنفكر في تأسيس قواعد للشراكة لتطبيق العدالة الاجتماعية الغائبة، ولنا أن نسأل الحكومة إن كانت تنكر - ولو في قرارة نفسها - أن مشكلة التمييز تأخذ منحى تصاعديا في كل المؤسسات وفي كل مواقع القرار، وليس التمييز الطائفي وحده المسيطر، إنما امتدت يد التمييز لتصنف الناس على أساس عرقي وعشائري ومناطقي وليس مذهبيا فقط.
ثمة خطورة كبيرة في البنيوية الاجتماعية حينما يشعر الناس بالغبن، بأن هذه الحكومة لا تمثل واقعهم بشكل عادل، والبرلمان دوائره الانتخابية مرسومة على فرز غير منصف، وسيجد الناس أنفسهم أمام حاجز صد كبير عن كل التشكيلات الأمنية والعسكرية، لأنهم لا يشعرون بأنهم جزء منها، ويشعر الناس بالحيف الكبير من الإقصاء في التعيينات القيادية في مختلف مؤسسات الدولة.
أنا - بخلاف المعارضة - أؤمن بما تطرحه الحكومة من فلسفة التوازن الاجتماعي الذي يتطلب - لظرف خاص - التعامل على قدم المساواة في التوزيعات، ولكن نظرية التوازن نسفت في اليم نسفا في غالبية مناصب القرار، بل وعلى مستوى البعثات والمنح الدراسية والوظائف الدنيا في المؤسسات الرسمية، ومازلنا بحاجة إلى تقارير علمية توثق هذا الواقع من جهات حيادية ليس لها نصيب من الغنائم السياسية.
كل الدبلوماسيين الذين التقيتهم مصادفة في المجالس أو في المناسبات الرسمية يجمعون على أن «التمييز» هو أمُّ المشكلات في البحرين، ومن دون حل هذه المعضلة لن نجد طريقنا سالكا نحو المستقبل، وهناك في الدولة صنف ينفي وجود التمييز أصلا، وهذه الفئة لا مجال للمناقشة معها، لأنها لا تقنع أحدا بل ولا تستطيع أن تقتنع بما تكذب، والفئة الأخرى تقر بوجوده وترجعه لعامل «الثقة» وهذه الفئة هي التي يجب أن نبني معها جسور التواصل والحوار الصريح، ليس أمام عدسات الإعلام بل الجلوس على مائدة واحدة تكسر هذا الحاجز الكبير.
لا أقول إن هناك «مافيا» تتحكم في عملية التمييز، لأنني لا أملك القرينة على ذلك، ولكنني أرى التمييز يسري على الأرض، ولا يحق لأحد أن يكذب عينيه، وفي المقابل لا أعفي الناس من المسئولية في إعادة الثقة، وبصراحة لا أرى أن «العنف» يمثل السبيل الصحيح نحو تحقيق أهدافنا المشروعة، فنحن نريد نشطاء في الساحة يعيشون الوعي الكبير، والصحوة المستمرة، واليقظة الحاضرة في كل موقف، ونريد من يرصد التمييز بشكل علمي ومنهجي بدلا من الصراخ فقط، ولا نريد ضميرا حيا بلا وعي، ولا إخلاصا مفصولا عن حسابات الواقع.
ربما يكون خطأنا دائما أننا ننظر إلى الأمور فيما حولنا مجردة... نفكر إما في الماضي الغابر أو الحاضر القاتم، مشكلتنا أننا نسقط البعد الثالث من حساباتنا، علينا أن نتطلع إلى الأفق القادم الأكبر من عيوننا الصغيرة!
إقرأ أيضا لـ "حيدر محمد"العدد 1990 - السبت 16 فبراير 2008م الموافق 08 صفر 1429هـ