اغتيال القائد العسكري لحزب الله عماد مغنية (الحاج رضوان) في دمشق سيكون له، كما كان متوقعا، مجموعة ارتدادات تتجاوز الحدود. فالجريمة كبيرة ويرجّح ألا تمر من دون تداعيات سياسية لها صلة مباشرة بملفات ساخنة في لبنان وخارجه.
تداعيات اغتيال مغنية يمكن إدراجها تحت سقف التجاذب الدولي/ الإقليمي. وما زاد من ارتداداتها اختيار المكان الذي نفذت فيه الجريمة. فالمكان أعطى مساحة جغرافية للتأويل وتقديم تفسيرات تحتاج إلى أدلّة دامغة تستند إلى تحقيق جنائي دقيق في تعامله مع مخلّفات الجريمة في الساحة التي وقعت فيها.
مكان الجريمة رسم في الأفق السياسي مجموعة احتمالات لابدّ من مراقبتها انطلاقا من التكهنات والفرضيات والتحليلات. فالمكان أعطى الموضوع ملحقات أضافت أبعادا سياسية زادت من صعوبات التحقيق في اعتبار أنّ إمكانات اشتراك جهات أخرى في التدقيق وجمع الأدلّة تتطلب موافقة رسمية من دمشق، وهذا غير وارد كما ظهر الأمر. وبما أنّ السلطات الرسمية تمانع في توسيع دائرة التحقيق؛ ليشمل جهات معنية بالجريمة فيرجح أنْ تبقى التأويلات مفتوحة على فرضيات تحتاج إلى أدلّة لتأكيدها.
مكان الجريمة وضع التكهنات أمام احتمالات ثلاثة: الأوّل، ان التحالف المخابراتي الأميركي - الإسرائيلي يقف وراء الجريمة باعتبار أنّ التحالف المذكور هو المستفيد من الاغتيال السياسي. الثاني، أن السلطات المحلية تتحمّل مسئولية معنوية لكون الجريمة وقعت في منطقة آمنة ويفترض أنْ تكون محصّنة ضد الاختراقات. الثالث، أنّ الجريمة حصلت في لحظة زمنية مفارقة من حيث توقيتها أو توظيفها أو استثمارها ما يعني وجود تقاطعات إقليمية أملت الإسراع في تنفيذها بغض النظر عن نتائجها أو ارتداداتها.
الترجيحات الثلاثة ظهرت على الشاشة السياسية منذ لحظة وقوع الجريمة. هناك طرف (المقاومة) اتهم «إسرائيل» بتنفيذ الاغتيال. وهناك طرف اتهم مواربة دمشق ورأى أنّ لها مصلحة في تغييب مغنية وإخراجه من الصورة. وهناك طرف اتهم مداورة السلطة الأمنية بتنفيذ الجريمة لمصلحة «إسرائيل» لحسابات إقليمية تتقاطع سياسيا في أكثر من موضع. وأخيرا بدأت تظهر من التحقيقات الميدانية علامات تشيرُ إلى وجود خيوط «فلسطينية مُقيمة في سورية».
مسألة الاختراق الأمني باتت الأقوى وربما تكون هي الطرف الوحيد الجامع بين الاحتمالات الثلاثة في اعتبار أنّ مكان وقوع الجريمة يصعب الوصول إليه من دون عبور سلسلة حلقات تؤدّي في النهاية إلى الهدف. وبما أنّ رواية الاختراق ستكون هي حجر زاوية في التحقيق الميداني فيرجّح أنْ تدور في تضاعيفها مجموعة ملفات أمنية تتركّز على ملاحقة الخيوط وإعادة ربطها لترسيم صورة شبكة ممتدّة تعمل تحت الأرض.
الجانب السياسي
الجانب الأمني مهم في القراءة ولكن المخاوف المتأتية منه هو المبالغة في تطوير عناصر هذا الجانب وتغليبه على الجانب السياسي. فالمبالغة في رؤية الجريمة في سياق واحد يعطل على القوى المعنية رؤية الدور الإسرائيلي في الدفع بهذا الاتجاه. ولاشك في أنّ إخراج جريمة الاغتيال الإرهابية من إطارها السياسي وحصرها في دائرة أمنية سيؤدّي بالتتابع إلى نقل المعركة إلى الداخل وإبعاد الشبهات عن الطرف المستفيد من هذا العمل.
الجانب السياسي من وراء الجريمة يشكّل الإطار الثابت لقراءة خلفيات المشهد الأمني الذي وقعت في دائرته. والجريمة السياسية تطرح أسئلة قوية عن الأسلوب الذي بدأت تعتمده القيادة الإسرائيلية في ضوء صدور «تقرير فينوغراد» بشأن إخفاقات العدوان على لبنان. فالتقرير انتقد بشدة تقصير الأجهزة وما وصفه بضعف التنسيق وما أنتجه من تردد وارتباك وتهرب من المسئولية. وخلص المشرف على وضع التقرير (القاضي فينوغراد) إلى استنتاجات عنصرية خطيرة تعتمد مبدأ القوة الخالصة في التعامل مع الأعداء، معتبرا أنّ «إسرائيل» لا مستقبل لها في المنطقة إذا تخلّت عن مبدأ التفوق على المحيط.
احتواء الخوف واللجوء إلى التخويف يشكلان الخلاصة العامّة للتقرير وبالتالي يشيران إلى سياسة تعتمد الهجوم لمنع الأخر من التقدّم أو التفكير بإمكان هزيمة «إسرائيل» وكسر شوكتها. ولا يُستبعد أن تكون جريمة الاغتيال وقعت تحت هذا البند الذي توصل إليه فينوغراد في تقريره. فالفكرة العامّة للتقرير أكدت خيار القوّة واستبعدت إمكانات التفاوض أو التسوية أو التعايش إلاّ في ضوء تحقيق الغلبة وتسجيل الانتصارات على المحيط (دول الجوار).
النتائج التي توصل إليها فينوغراد في تقريره تحتمل فرضية وجود سياسة إسرائيلية عنيفة في التعامل مع الأطراف التي ترى تل أبيب أنها تشكّل نقاط ارتكاز للمواجهة. وبما أنّ حزب الله يجسّد تلك القوة الميدانية التي نجحت في كسر هيبة «الجيش الذي لا يقهر» فلا يستبعد أنْ تتواصل الهجمة في ألوان مختلفة عليه.
الجانب السياسي هو الأقوى في جريمة الاغتيال؛ لأنه يتصل مباشرة بالخلاصات العنصرية التي توصّل إليها فينوغراد في تقريره. والخوف من التحقيقات الجنائية هو احتمال انزلاقها إلى قراءة أمنية ملتبسة تغيب عنها طبيعة تلك الهجمة التي قررت القيادة الإسرائيلية اعتمادها.
المتاهات الأمنية واردة، وأخطر ما فيها احتمال إعادة توظيفها في سياق أهلي داخلي يعطل الرؤية العامّة للمشهد السياسي ودور التحالف الأميركي - الإسرائيلي في الدفع نحو تقويض الاستقرار وجرجرة المقاومة إلى مهالك محلية لا تستطيع التعامل معها كما حصل مع حركة «حماس» في قطاع غزّة.
اغتيال مغنية جريمة سياسية أساسا وهي أرسلت إشارات خطيرة ترسم علامات على طور من المواجهة سيكون لها تداعياتها الإقليمية وارتداداتها الأمنية. فالعمل الإرهابي الذي وقع في مكان محصّن أمنيا يطرح قراءة سياسية تشير إلى احتمال لجوء تل أبيب إلى تغيير قواعد اللعبة وتوسيع دائرتها الجغرافية إلى ساحات أوسع من لبنان الصغير.
نقل المعركة جغرافيا من مكان مكشوف ومفتوح إلى أمكنة مغلقة يعطي إشارة إلى وجود نزعة عسكرية (مخابراتية) تريد توسيع دائرة الرد لتشمل ساحات مترابطة الحلقات سياسيا. وهذا الاستنتاج الذي يمكن البناء عليه في ضوء ارتدادات جريمة الاغتيال يكشف في خطوطه العريضة احتمال أنْ تكون تل أبيب في صدد مراجعة خططها العسكرية السابقة التي استنفدت أغراضها ووصلت إلى طريق مسدود. ومثل هذه الفرضية السياسية التي أشارت إليها جريمة الاغتيال تُجدد طرح السؤال: هل قررت تل أبيب فعلا تغيير قواعد اللعبة؟ الإجابة ليست بسيطة ولكن الجريمة السياسية كانت كبيرة وقد وقعت في قلعة محصّنة أمنيا... وهذا في أضعف الإيمان لن يمر من دون ارتدادات وتداعيات على الجانبين الإقليمي واللبناني.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1990 - السبت 16 فبراير 2008م الموافق 08 صفر 1429هـ