العدد 1989 - الجمعة 15 فبراير 2008م الموافق 07 صفر 1429هـ

حزب الله... من الدفاع إلى الهجوم

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

مرّ «يوم 14 فبراير» في لبنان من دون احتكاك أهلي بين الطرفين. فكلّ فريق أقام مهرجانه السياسي بمعزل عن الآخر. قوى «14 آذار» حشدت أكثر من مليون نسمة في ساحة الشهداء (الحرية) لإحياء الذكرى الثالثة لاغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري. وقوى «8 آذار» حشدت أكثر من مليون نسمة في الضاحية الجنوبية؛ لتشييع شهيد المقاومة عماد مغنية التي اغتيل بعمل إرهابي في دمشق.

اليوم مرّ على خير ومن دون توتر أمني أو إشكال كانت الأطراف المراقبة تتخوّف من حصوله. ولكن اليوم لم يمر من دون توتر سياسي عكسته الخطابات التي أطلقت من المنبرين. خطاب «14 آذار» تركز على ضرورة عودة الدولة ومعاقبة المجرم وإعادة بناء المؤسسات وانتخاب رئيس للجمهورية. وخطاب «8 آذار» جدد التأكيد على ضرورة استمرار المقاومة لمواجهة العدوان الأميركي - الإسرائيلي.

خطابان منفصلان طرحا بوضوح في يوم واحد وفي منطقتين لا تبتعدان عن بعضهما سوى 5 كيلومترات. الأول يريد الدولة والثاني يريد المقاومة، وبينهما تقع مساحة من الألغام الموقوتة يصعب انتزاعها في ظل لغة تبدو غير متوافقة على القراءاة والتحليل وبالتالي متعارضة في النتائج ورؤية الأهداف.

التوتر السياسي كان سيّد الموقف. فهناك فريق غاضب من تعطيل المؤسسات وإضعاف الدولة وعدم تسهيل النصاب القانوني لانتخاب رئيس. وهناك فريق غاضب من العدوانية الإسرائيلية التي تهدد أمن لبنان وتعرض وجوده للخلل والاضطراب وتستدرجه للمواجهة العسكرية التي توقفت في منتصف الطريق خلال عدوان صيف 2006.

كيف يمكن توحيد الخطابين والجمع بين الدولة والمقاومة في إطار هيكلي واحد؟ المراقبون أكّدوا استحالة التوحيد بين الخطابين. فكلّ فريق ينظر إلى العالم من وجهة مضادة للآخر. والاختلاف في الرؤية يشكّل سلسلة حلقات ترسم خطوات مضادة. أصحاب مشروع الدولة يركزون خطابهم على بناء المؤسسات والإعمار والعدالة (المحكمة الدولية) ومعاقبة الطرف المسئول عن الاغتيالات. وأصحاب مشروع المقاومة يركّزون خطابهم على بناء القوّة القادرة على التصدّي والتحرير والصمود في وجه العدوانية الأميركية - الإسرائيلية. وبما أنّ المشروعين يتطلبان آليات مختلفة تبدو الأمور متجهة نحو تكريس نوع من الانقسام السياسي - الأهلي الذي يتقاطع على جبهات ليست بالضرورة متوافقة في الثقافة والمنهج والممارسة.

توحيد لبنان تحت بند واحد وشعار واحد ورؤية واحدة أصبح عمليا من الأمور الصعبة في اعتبار أنّ برنامج الدولة يتطلب خطوات لا تنسجم مع برنامج المقاومة وخصوصا بعد اغتيال مغنية في دمشق.

اغتيال مغنية كسر المعادلة وأعاد تدوير الزوايا. وما كان من الأمور الصعبة بات من الأمور المستحيلة. فلبنان بعد جريمة الاغتيال التي نفذتها أجهزة استخبارات في دمشق لن يعود كما كان حاله قبل ذاك اليوم في اعتبار أنّ الرسالة كانت قوية ويرجّح ألا تمر من دون رد من جانب حزب الله.

الاغتيال عزز ذاك الانشطار السياسي - الأهلي في لبنان وأعطاه ذاك الزخم الذي لن يتوقف عند حدود البلد الصغير. وهذا بالضبط ما أشار إليه بوضوح السيد حسن نصر الله في خطاب التشييع.

خطاب السيد نصر الله جديد في نوعيته. فهو للمرة الأولى ينقل المقاومة من ردّة الفعل إلى الفعل. في السابق كان خطاب المقاومة يتركّز على حق الدفاع المشروع عن الأرض والأهل والقرى الأمامية ومناطق الحدود في الجنوب. وأحيانا كان الخطاب يتجاوز طبيعته الدفاعية باتجاه المطالبة ببناء استراتيجية تساعد على استكمال التحرير وتبادل الأسرى وصولا إلى البحث عن صيغة تسهل عملية دمج الأسلحة بمؤسسة الجيش اللبناني.

خطاب التغيير

أمس الأوّل شكّل خطاب التشييع نقلة نوعية في قراءة المواجهة حين تطرّق السيد نصر الله إلى مسألة الاغتيال معتبرا أنّها حصلت خارج ساحة المعركة واجتازت الحدود اللبنانية. وهذه العملية في العلم العسكري (والسياسي أيضا) توضع في خانة الحرب المفتوحة التي لا تعطي ذاك الاهتمام القانوني للمكان والزمان والأسلوب. وبالتالي فإنّ الرد ليس بالضرورة أن يكون في الساحة اللبنانية في اعتبار أنّ الجانب الآخر فتح الأبواب ولم يحترم الحدود المتعارَف عليها في المواجهات السياسية والعسكرية. الجغرافيا إذا اتسعت في مجالها الحيوي. وهذا يستدعي إمكانات ووسائل ومجموعة أهداف تتجاوز حدود لبنان الدولية.

إلى العامل الجغرافي أضاف السيد نصر الله بعدا آخر في إطار المواجهة حين نقلها من سياقها السياسي (حق الدفاع عن النفس) إلى سياق وجودي (مصير «إسرائيل» ومستقبلها في المنطقة). وهذه النقطة تعتبر جديدة جدا في خطاب حزب الله. فالحزب منذ تأسيسه على فكرة المقاومة كان حريصا على ضبط لغته تحت سقف إيقاع المواجهة مع الاحتلال. وطوال فترة مقاومته المشروعة إنسانيا ودوليا لم يفرّط الحزب بلغة الخطاب ويدفعه من حق الدفاع التكتيكي إلى الهجوم الاستراتيجي. كلّ خطابات حزب الله كانت متنبهة إلى هذه المسألة ولم تتجاوز لغتها حدود لبنان. الحزب كان متواضعا في استخدام مصطلحاته وأحيانا كانت كلماته أقل من مستوى أفعاله. لذلك اشتهر الأمين العام بدقة اختياره للمفردات ولم تسجّل ضده تجاوزات لفظية دأب الكثير من قادة الفصائل والدول على إطلاقها كلاميا من دون أفعال وممارسات.

الحزب الوحيد تقريبا في المنطقة نجح ميدانيا في رَدْم الهوّة بين الكلام والفعل. وأحيانا كانت أفعاله أقوى من كلماته. فهو كان حريصا على قول الأشياء التي يستطيع فعلها، الأمر الذي أكسبه ذاك الاحترام من خصومه قبل أنصاره. مثلا لم يتحدّث الحزب مرة عن إزالة «إسرائيل» أو حَرْقها أو اجتثاثها ولم يتجاوز في خطابه السياسي تلك الحدود التي تتجه لفظيا نحو النفخ وإدعاء بطولات من دون طائل أو قدرة على الأداء. هذا الخطاب المغاير في نوعيته السياسية أكسب حزب الله تلك المرونة والاحترام وأعطاه ذاك الزخم المعنوي المطلوب ميدانيا لتطوير أدواته الدفاعية. وظهرت فاعلية هذا الأمر خلال العدوان الأميركي - الإسرائيلي في صيف 2006. فالحزب أحبط الهجوم البري في الأيام الأخيرة انطلاقا من المواجهة الميدانية على أرضه؛ ما ساعده على كسر شوكة «الجيش الذي لا يقهر».

تواضع حزب الله أعطاه قوة لا تقهر وأكسبه شرعية سياسية دولية وأعطاه ذاك الاحترام والتقدير حتى من جانب الأكاديميات العسكرية التي انتبهت واهتمت بتكتيكاته الدفاعية وأخذت بتدريسها في الكليات والمعاهد الحربية.

خطاب أمس الأوّل في مناسبة تشييع شهيد الحزب وقائده العسكري عماد مغنية تطرّق إلى نقطتين إضافيتين غير معهودتين في لغته السياسية. الأولى جغرافية (توسيع ساحة المعركة). والثانية وجودية (البدء في إزاحة «إسرائيل»). وهذا يعني في لغة الحرب المفتوحة أنّ الحزب قرر الانتقال من الدفاع إلى الهجوم.

يوم «14 فبراير» كان استثنائيا في لبنان. فهو مرّ بسلام أمني - أهلي ولكنه رفع سقف السياسة إلى مرتبة أعلى من السابق ووضع إمكانات توحيد منطق الدولة مع منطق المقاومة في خانة الاستحالة. فالتوحيد يتطلب لغة سياسية تلتقي عند الحد الأدنى حتى يمكن البناء عليها وابتكار آليات مرنة تساعد على إعادة إعمار تلك الجسور المقطوعة بين «8 و14 آذار». ما حصل في «عيدالحب» أعطى إشارات سياسية معاكسة. فلبنان تغيّر للمرة الثانية في أقل من سنتين ولن يعود كما كان سابقا قبل عدوان 2006 ولن يعود الآنَ كما كان قبل ارتكاب جريمة اغتيال مغنية. فالجريمة إرهابية الاسلوب وسياسية في طبيعتها وأهدافها وغاياتها. وهذا ما يمكن التقاطه من تلك الإشارات التي قيلت في خطاب التشييع.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1989 - الجمعة 15 فبراير 2008م الموافق 07 صفر 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً