من تابع مواقف الأخ العزيز إبراهيم شريف أو بالأحرى مواقف «وعد» فيما بات من الصعب جدا التفريق بين موقف الشخص وموقف الجمعية في المرحلة الحالية تجاه حوادث الشغب يحق له أن يضع هذه المواقف تحت مقولة السيد المسيح الخالدة «من لم يكن منكم بخطيئة فليرمها بحجر». فعلى رغم أننا لا نختلف في وجود الكثير من الأزمات المتراكمة والملفات الحاسمة والقضايا الرئيسية المعلقة التي اعتمدت الدولة والحكومة للأسف حيالها سياسة أشبه بـ «التطنيش» والتجاهل من باب تفسير أسباب تلك الحوادث، فإن مثل هذه التفاسير والتأويلات في النهاية لا ينبغي أن تكون مدخلا لتبرير هذه الحوادث ومساندة مرتكبيها رمزيا مهما كان حجم السخط والغضب الكامن لدى بوشريف ورفاقه ولدى غالبية أبناء البلد تجاه مآل الأوضاع في البلاد التي لا ترضي ولا تسر أحدا. فمن خالف القانون الذي يعرفه الجميع جيدا فليتحمّل كامل العواقب.
إن تلك المساندة والاهتمام والظهور المفرط في الساحة تحولت في كثير من الأحيان إلى فيضان عاطفي ورومانسي تضامني فاق وغمر مشاعر الآباء والأمهات والأشقاء والشقيقات وجرفهم جميعا معه سياسيا، وربما هم أحرجوا من هيجان بوشريف الفيّاض الذي للأسف لم نجد له غمرا وإغراقا ميدانيا في ساحات أخرى بما فيها ساحات «معتقلي الخلية الإرهابية» وغيرهم الكثير. فهل يعقل أن يكون «أسد المحرق» الأول و «أسد المحرق» الثاني هم من أكبر العوائق الجسيمة أمام دخول تنظيم وطني قوي وراسخ ومتوطد مثل «وعد» ميادين المحرق وساحاتها وغيرها؟ فإلى متى ستستمر هذه الحالة السلبية وإن كنت اجزم أن لو كان المناضل الوطني الوالد عبدالرحمن النعيمي بيننا لتحرك إلى حلها ومعالجتها بمرأى الواقع السياسي وضروراته الوطنية وإن كان قد تعرض هو للإساءة والجحود من قبل «أسود المحرق» سابقا؟ فأبو أمل رجل يتماهى في القضية الوطنية وينبذ «الشخصانية» مهما كان الثمن!
وإن كنا نقدر لإبراهيم شريف ولـ «وعد» وللكثير من الكوادر الحقوقية فضحها الانتهاكات والمخالفات التي اتهمت بها قوات الأمن والشغب أثناء المداهمة وإطلاق مسيلات الدموع بغزارة فيما يضر بالكثير من الأبرياء، إلا أننا نرجو مرة أخرى ألا تستخدم تلك الانتهاكات ذريعة للتعاطف مع أعمالٍ لا يختلف أي عاقل في منافاتها القانون والعقل والنفس البشرية السوية مهما تعلقت و «تشعرنت» هذه الأعمال الجنائية بقضايا وملفات كبرى لا يختلف في أحقيتها وإهمالها من قبل الدولة!
فما يرتكب من اعتداء ضد رجال الأمن ومساس بهيبة الدولة من قبل المعتدين والمخربين لا يمكن أن يخرج هو الآخر عن نطاق انتهاك حقوق الإنسان. فهؤلاء المعتدون والمخربون لا يزيدون إنسانية - بالمعنى الحقوقي - عن رجال الأمن وإن اختلفت معادلات المواضع والظروف وأحجام الانتهاكات بين الطرفين!
ولعل الشجاعة الحقيقية التي يعرفها الجميع ليست في «كسر البرمة» فقط والتنفيس عن القهر وابتزاز الدولة وفضحها، وإنما جوهر الشجاعة يكمن في تحمّل كامل المسئولية باقتدار في مرحلة ما بعد «كسر البرمة»، وما ستؤول إليه الأوضاع المتتابعة وذلك أمر عسير جدا، ونحن بدورنا لا نود أن يكون بوشريف و «وعد» قد ورطوا أنفسهم في «نقعة» تلك المجازفات والمغامرات الخطيرة، وخصوصا إن كان قد دأب بعض المورطين المتطرفين سبّ المعتدلين نهارا والاستنجاد بهم ليلا!
وفي محور آخر يتعلق بهيمنة الصناديق والجمعيات الخيرية الطائفية على المشهدين الاجتماعي والسياسي، وسعي بعض القوى الإسلاموية إلى التعامل مع الملفات والأزمات الوطنية المصيرية بمنطق وعقلية أرباب الصندوق الخيري والصدقة الجارية في البرلمان بدلا من أن يكون منطقا وعقلا وتعاملا فاهما لذاته وقنواته التشريعية ومراميه أساسا، فإن الحديث عن زهد واستعلاء التيارات اليسارية التقدمية عن ممارسة العمل التنموي الاجتماعي والعمل الخيري وتفرغها للخطابة والتحرك السياسي المدني إنما يشكل أفضل إقصاء اجتماعي لها بعيدا عن هموم الشارع المضغوط بأحذية الفقر المعيشي والفقر السياسي فيما لا يطاق عليه صبرا وطنيا!
وإن كان الأخ العزيز إبراهيم شريف قد استجاب إيجابيا لدعوتنا «وعد» وغيرها عبر مقالنا «صندوق وعد الخيري» بألا تتردد في التركيز على مزاولة العمل الاجتماعي التنموي فهو لا يختلف مع أهدافها ومبادئها وقيمها الأصيلة أبدا، وإن كان الأخ العزيز عبدالله جناحي قد ذكر لصحف عن عزم «وعد» البدء بالتأسيس لمشروعات اجتماعية تنموية وأعمال خيرية فذلك أمرٌ مبشرٌ من قبلهم إلا أننا لا نرجو له أن يكون خيارا مؤجلا ومعطلا، فإن تركز «وعد» في هذا الظرف السياسي الفاتر - على رغم احتقانه - على التأسيس لنماذج اجتماعية تنموية وقواعدَ للعمل التطوعي العام الموجه بقيمها المبدئية الراقية وأهدافها الوطنية النبيلة إلى جميع المواطنين فسيكون أجدى نوعيا بكثير لها من المواصلة على المنوال ذاته من ندوات وخطب سياسية ومسيرات واعتصامات لا أول لها ولا آخر!
على الأقل سيتغير المشهد «اليساري» و «التقدمي» البحريني بدلا من أن يكون محصورا في فئة انتهازية تقبض من جهة متنفذة وتصرف جلّ ما تقبضه في كرع «البُطُل» والحنين النوستالاجي لأيام الشباب الثوري، على حين هنالك فئة أخرى مازالت تقارع وتناضل ولكنها ترمي جميع ما تتحصله من عرق جبينها في البحر وفي حضن أصدقائها وحلفائها من دون أن تبقي لها قرشا وطنيا أبيضَ واحدا يقيها يوما طائفيا أسودَ!
فإلى متى سيظل الرجل اليساري العتيق هنا معتمدا ومتعامدا بطوله وكرشه على «سيلان» و «جلوكوز» الفتاوى المسيسة حينما يستلقي على سرير المجتمع؟ وما الخطوات العملية التي ستقوم بها «وعد» في هذا المضمار العام؟
وأذكر أيضا ما لاقيته من ترحيب كبير من قِبل عدد من الإخوة القياديين في تنظيم «وعد» بشأن ضرورة معالجة تقصير التيارات اليسارية التقدمية في البحرين كثيرا في تبني قضايا الفساد الأخلاقي في البلاد من مخدرات ودعارة وشذوذ جنسي وغيرها. فمحاربة تلك الظواهر المدمرة التي تعكس واقعا اقتصاديا واجتماعيا معتلا وسلبيا لا تتناقض مع مبادئ هذه التيارات وأهدافها وقيمها، وليس من المعقول أن يظل هذا الموضوع حبيسا لأدراج محاججات سخيفة عن الحريات الفردية. فمن أراد التغيير والبناء فلابد أن يحترم وينسجم مع قيم المجتمع وأعرافه ومعتقداته ويضعها فوق اعتباره لا أن يتجاوزها عبثا سيصبح عبئا ثقيلا عليه لاحقا، ولعل أزمة «وعد» في ذلك الموضع إنها ذات مبادئ سيامية ونضج ورقي فكري تقدمي ونية مخلصة وعزم جاد إلا أنها كثيرا ما تخفق في إيصال الرسالة الاجتماعية لها سواءٌ في صورة جاذبة أو في مبادرة عملية ملموسة آثارها!
وفيما يتعلق بمبادرة «مجلس نساء العاصمة» نشيد بهذه المبادرة ونقدرها كثيرا، إلا أننا في مجتمع شرقي نضاح بالفجاجة والهيمنة «الجندرية» ويكاد يكون ذا أنطولوجيا ذكورية بحتة. ونتساءل يا «وعد» عن مجالس رجال البحرين أولا وأساسا بكونها خطوة مختزلة للتغيير والتوعية والتحرك المجتمعي على غرار مجلس المناضل الوطني عبدالرحمن النعيمي؟
وبالنسبة إلى خيارات «وعد» المستقبلية للتحالف وعما ذكره المناضل الوطني إبراهيم كمال الدين لصحف أن «وعد» لن تتحالف إلا مع جمعيات ذات تاريخ نضالي، فإننا نجد أنفسنا مختلفين مع أستاذنا ووالدنا في ذلك بحسب فهمنا له. فلا توجد هنالك تحالفات دائمة وثابتة بحسب الامتياز النضالي إذا ما أردنا أن نتفاعل بعقلانية حيوية مع واقع سياسي ذي طبيعة متحولة ومتغيرة باستمرار. فعدو الأمس من الممكن أن يكون صديق اليوم والعكس أيضا صحيح. ومثل هذا القول بالتحالف مع الجمعيات النضالية قد يفهم على أنه حرمانٌ لجمعيات وتيارات أخرى من «حلم» التحالف والالتقاء مع «وعد»؛ لكونها لا تمتلك عملات نضالية تاريخية بحكم القدر والمصادفة والمآل التاريخي، فسنكون حينها على موعد مع «الطبقة المناضلة» و «الكتلة المناضلة» و «الطائفة المناضلة» في أسوأ الأحوال بحسب طبيعة التلقي الشعبي العام!
هناك قوى وتيارات شعبية كبرى في الساحة الشعبية لا يمكن لـ «وعد» أن تسقطها من حساباتها مهما اختلفت معها سياسيا طالما أن «وعد» هي صاحبة مشروع وطني ريادي في النهاية، ولابد أن تكون دائرة التحالفات النضالية حينها مبنية على الجدوى والواقعية السياسية العملية أكثر من كونها مبنية على المجاملة والتجمل والاشتياق التاريخي إلى الأيام الجميلة!
ولعل أسوأ السلبيات التي يعاني منها الخطاب والحراك «الوعدي» هو إنه مازال حتى هذه اللحظة - على رغم عميق نضجه وسعة إدراكه بمجريات الواقع السياسي المجتمعي - أسيرا كغيره من خطابات قوى المعارضة لسكرة التسعينيات المهيضة لأجنحة التغيير. فإبراهيم شريف ورفاقه يعلمون جيدا من هو الخصم الحقيقي الذي هندس إبعادهم عن البرلمان؛ حتى يتسنى له هندمة الوضع طائفيا، ويعلمون من كان هدفه ومسعاه تجويف «المشروع الإصلاحي» وإخراجه من مضمونه، ومن يحمل أجندة التشطير الطائفي والإثني للمجتمع البحريني، ويعرفون أن الأوتوقراطية الطائفية القبلية التي يجسدها «المحافظون الجدد - فرع البحرين» أسوأ بكثير من الأوتوقراطية الوطنية. فلماذا إذا اللجوء إلى خطاب التسعينيات الرث مرة أولى وثانية وثالثة بمناسبة ومن دون مناسبة؟ هل هو أمر يتعلق بالجرأة أم بسوء التقدير والنظر السياسي؟ وهل هو كلام للإفهام والتوضيح يشبع الإدراك والعقل والوعي العام أم هو كلام للاستهلاك السياسي الشعبوي وإلهاب الأشواق فقط وإشعال حماسة الثأر؟
ختاما لكل ما ذكرناه لايزال هنالك هاجس يسكننا عن موقع «وعد» بين حلفائها من الإعراب سياسيا ووطنيا مستقبلا في ظل سيرها الحالي، فهل ستكون «وعد» في نهاية هذا المطاف السياسي العويص أقرب إلى أن تكون مسيحا للمعارضة البحرينية يصلب ويفدي الجميع ويقدم إليهم مكاسبَ وتضحياتٍ وطنية نفيسة يستثمرونها منافعَ حزبية وفئوية وطائفية لا حصر لها إثر صلبه الوطني ذاك، أم ستواصل «وعد» العمل على نواة لمشروع وطني تحرري خالد كما وضع أسسه المؤسسون والرواد؟
وهل سترتدي «وعد» تاج الشوك عن نفسها وعن الآخرين أم شُبِّه لنا ذلك؟
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 1989 - الجمعة 15 فبراير 2008م الموافق 07 صفر 1429هـ