لايزال الجدل السياسي يهزّ الكيان الصهيوني حول الحرب العدوانية التي شنّها على لبنان في يوليو/ تمّوز 2006، حيث بتنا نجد تغييبا لسلسلة من القواعد التي كان العدوّ يتباهى بها، من قبيل المحاسبة، وصولا إلى المعاقبة، حتّى على مستوى رؤساء الحكومات؛ الأمر الذي يخفي وراءه اهتزازا بنيويّا أصاب هذا الكيان في كثير من مستوياته، وكانت النتيجة أن اعترف العدوّ بالهزيمة أمام المقاومة في لبنان، من دون أنْ يرتّب على هذا الاعتراف آثارا سياسيّة داخليّة، تحت سلسلة من الحجج والعناوين التي أظهرت كيان العدوّ كأيّة دولة من دول العالم الثالث في طريقة إدارة شئونها السياسية والقضائيّة أمام الاستحقاقات الكبرى.
لقد اعترفت «إسرائيل» بهزيمتها أمام المجاهدينَ المقاومينَ، في الوقت الذي شعر كثيرٌ من العرب بالعقدة من المقاومة؛ لأنّها تربك مشروعات السلام التي يلهثون وراءها، بالإضافة إلى التعقيدات الداخليّة اللبنانيّة التي حمّلت المجاهدينَ مسئولية الحرب، وأثارت الحديث عن مأساة الصامدين مع المقاومة، وأدخلت قضية الانتصار في الجدل الداخلي، حتى كأن «إسرائيل» هي المنتصرة، وانطلق الحديث عن المطالبة بنزع سلاح المقاومة فيما الحرب لم تضع أوزارها بعد، من دون أن ينطلق تخطيط على المستوى الرسمي لتسليح الجيش ودعمه ومنحه القرار السياسي ليصبح قادرا على ردّ العدوان الإسرائيلي؛ الأمر الذي يوحي بغياب المسئوليّة عن الوطن والمستقبل لدى كثير من الطبقة السياسية.
إننا نعتبر أنّ الهزيمة التي أصابت «إسرائيل»، هي - أيضا - هزيمة للإدارة الأميركية، التي كانت الحرب حربها، حيث اعتُبرت هذه الحرب بوّابة أميركا إلى الشرق الأوسط الجديد، وقد مارست الإدارة الأميركيّة ضغوطا هائلة لإطالة أمد العدوان، خصوصا أنّ مجلس الأمن لم يُصدر إلى الآن قرارا بوقف إطلاق النار، مانحا كيان العدوّ نوعا من حرّية تجديد العدوان عبر القرار 1701 الذي اعتبرته «إسرائيل» نصرا لها.
فلسطين: العملية الاستشهادية تصدم العدو وهذا هو منهج الإدارة الأميركية تجاه كلّ شعوب المنطقة وقضاياها، إذ لاتزال تشجّع العدو على قصف المدن والقرى الفلسطينيّة وارتكاب المجازر وتحريك الاغتيال، تحت حجّة الدفاع عن النفس، تماما كما يُدافع الذئب عن نفسه حين يقتل الحِمْلان الوديعة.
ولكن أبطال الانتفاضة لايزالون يواجهون العدو بصواريخهم التي هزّت أمنه، وأربكت مستوطناته، وقد مثلت العملية الاستشهادية في ديمونة صدمة عسكرية ومعنوية للعدو، ولاسيما أنّ المجاهدينَ قد استعادوا هذا الأسلوب الموجع في حربهم مع العدو.
وإنّنا نأسف أنْ تصدر الرئاسة الفلسطينيّة بيان استنكار وإدانة للعمليّة، متناسية أنّ العدو يحرّك قراره السياسي وترسانته العسكريّة لقتل المدنيّين وتدمير البيوت وجرف البساتين؛ لأنّ المسألة لدى هذا العدوّ هي تخدير السلطة الفلسطينية من خلال الاجتماعات الثنائيّة وإذلالها، والامتناع عن منحها أية مبادرة لتخفيف الضغوط عن الشعب الفلسطيني على المعابر، وفرض الحصار التجويعي والحيوي على المدنيين، بما يمثل العقاب الجماعي الذي رفضت أميركا إدانته في مجلس الأمن، ومنعت استصدار قرار لرفع المقاطعة عن قطاع غزّة؛ لأنّ إدانة هذا الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، يمثل إدانة للاحتلال الأميركي للعراق وأفغانستان.
إنّ الولايات المتّحدة الأميركية لا تؤمن بحقوق الإنسان العربي والمسلم والمستضعف، وهي تتعامل مع الأنظمة العربيّة كأدوات لخدمة مشروعات هيمنتها في المنطقة، أو كمصارف تموّل كلّ حروبها عليهم، أو مجرد أوراق لصرف الأنظار عن أزمات داخليّة تعانيها الإدارة الأميركية في واقعها الداخلي.
إنّ على الحكومات العربية أنْ ترجع إلى صوابها، وأنْ تفهم طبيعة اللعبة التي تمتدّ من فلسطين إلى كلّ بلد عربي خاضع للسياسة الإسرائيلية والأميركية، والتي تجعل من الاستقلال نكتة سمجة في العالم العربي.
إيران: تقدّم علمي وقلق أميركي وفي مظهر للاستكبار العالمي الذي يرفض لشعوب المنطقة أنْ تتحرك في عمليّة صناعة القوّة الذاتيّة، سارعت واشنطن إلى التنديد بالخطوة الإيرانية في خروجها إلى الفضاء الخارجي، من طريق إرسالها لصاروخ إيراني الصنع، صُمّم لإطلاق أوّل قمر اصطناعي للبحوث، في خطوة تظهر التقدّم العلمي الذي حققته طهران في المجال التكنولوجي والعلمي، وعبّر البيت الأبيض عن الأسف أن تواصل إيران اختبار صواريخ، معتبرا أنّ النظام الإيراني مستمر في اتخاذ خطوات «لن تؤدي إلا إلى زيادة عزلته وعزلة الشعب الإيراني عن المجتمع الدولي»، من دون أن يخفي بعض المحلّلين العسكريّين الأميركيّين، أنّ هذا الاختبار قد يثير قلق الولايات المتحدة و»إسرائيل».
أمّا تعليقنا على ذلك، فهو أنّ أميركا لا تريد لإيران الحصول على التقدّم العلمي الذي قد يمكّنها من إنتاج صواريخ دفاعية، وقد تحدّث المحللون أنّ هذا الاختبار جاء بعد مرور أسابيع قليلة فقط على إجراء «إسرائيل» اختبارا صاروخيا، ليكون هذا الاختبار الإيراني رسالة من إيران تقول فيها لـ «إسرائيل»: إننا نستطيع أنْ نفعل ما يمكنكم عمله مهما يكن. والملاحظ أنّ أميركا لم تنكر على «إسرائيل» اختبارها الصاروخي، انطلاقا من استراتيجيتها في أنْ تبقى «إسرائيل» أقوى دولة في المنطقة وفي استخدامها، إذا لزم الأمر، لمهاجمة إيران بقصف مواقعها النووية السلميّة.
أمّا حديثها عن عزلة إيران عن المجتمع الدولي، فإننا نلاحظ أنّ أميركا هي التي أصبحت تعيش العزلة السياسية عن شعوب العالم الثالث، من خلال رفض هذه الشعوب لاستراتيجيتها العدوانية الاستكبارية، وخصوصا في المآسي التي تلحقها بالشعوب الإفريقية بالتخطيط مع حلفائها، أو في صراعها مع بعضهم الآخر، كما في كينيا وتشاد والسودان والصومال.
لبنان: توظيف المجزرة توظيفا سياسيا أمّا لبنان، فلايزال الشعب ينتظر انتهاء التحقيقات العسكرية والقضائية التي تكشف المجرمين الذين أطلقوا الرصاص على الضحايا من شهداء وجرحى، والذين خططوا لتحويل الحركة المطلبية في التظاهر السلمي إلى مأساة إنسانية، في خطة خبيثة تعمل على أنْ يفقد لبنان خصوصيته الحضارية في المطالبة بقضاياه الحيوية وتطلعاته السياسية وأوضاعه الاقتصادية، كما يفعل ذلك كلّ شعوب العالم المتحضر الذين قد تتطوّر تظاهراتهم إلى أعمال سلبية تخريبية، من دون أنْ تثير أية ردود فعل عنيفة على مستوى الجرائم الدموية، ومن دون أنْ تنطلق التصريحات برفض النزول إلى الشارع؛ لأنه لا يحلّ مشكلة، كما يزعمون.
إنّ لبنان هو بلد الحرية السياسية الشعبية التي يريد البعض أن لا تنطلق إلاّ لحسابهم، ونحن نؤكّد أنّ مسألة الشارع لا مشكلة فيها، بل هي حركة إيجابية إذا كانت سلمية لا عنف فيها. ولذلك فإنّ رفض النزول إلى الشارع الذي انطلق من مواقع دينية رسمية أو سياسية أو حزبية، سوف يُفقد لبنان خصوصيته في أنه بلد الحرية.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإنّ المجازر التي حدثت في منطقة الشياح، لم تحرّك لدى كثيرين العنصر الإنساني لرفض الجريمة، بل استخدمت استخداما سياسيا لا يملك العقلانية والموضوعية، بل لقد حاول البعض تحريك المسألة في عملية ردود فعل تختزن التهديد اللاواعي. ونحن نعرف أنّ الإخلاص للوطن يفرض على الجميع أنْ يدققوا في تصريحاتهم وكلماتهم للابتعاد عن عناصر الإثارة.
ثم إنّ الحديث عن بعض الجهات الأمنية الرسمية بأسلوب العصمة المطلقة التي لا يمكن محاسبة من أخطأ منها، ولا محاكمتها إذا أجرمت، هو حديث يبتعد بالمشكلة عن الحل، فلابدّ من أن يُحاسَب المخطئ ويُحاكَم المجرم، فلا قدسية لأحد عندما تكون القضية قضية الشعب كلّه، سواء كان في موقع ديني أو حكومي أو سياسي أو أمني؛ ومن هنا تبدأ حركة الدولة نحو احترام نفسها وإنسانها وحماية مستقبلها.
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 1988 - الخميس 14 فبراير 2008م الموافق 06 صفر 1429هـ