كَتَبَ الروائي الكولومبي الشهير غابريل غارسيا ماركيز مرة فقال: «إن أمرا حدث بمثل ذلك السوء في الحياة لا يُمكن له أن يكون جيدا في كتاب». ولأنني مُجبرٌ على التواضع أمام نِتاج هذا الكاتب الكبير؛ فقد وَجَدت أن رأيه صائب ضمن زَمَكَانِه لا أكثر ولا أقل، لأنني أحسب أن الصالح والطالح سواء في عِظَةِ المثل، لذلك فيُمكن لهما أن يكونا جيّديْن في كتاب.
أقول هذا وأنا أستند إلى يقين تام بأن عدم القبول بهذه المعادلة المعكوسة (ماركيزيا) سيعني أن ما ينضح به عالمنا العربي من مشكلات متولّدة أو مُجترّة لن تجد لها مكانا بين الكتب والتأريخ، على رغم أن توثيقها هو ضرورة حتمية لكمال الذاكرة وجلاء غوامضها في المستقبل لمن سيأتي سائلا عن ماضيه وهو غارق في شئونه.
ضمن التعرّض لأمهات المشكلات العربية والإسلامية وأقدسها تتصدّر القضية الفلسطينية قائمة التراجيديا الممتدة منذ عقود ثمانية، وربما كانت هي الفعل الأقدر على تَدْمِيْن مشاعرنا ومواقفنا على صور الدم والأشلاء والتدمير إلى الحدّ الذي لم يعد يُكلّفنا سوى هزّة كتف كلما سَنَحنا لأنفسنا بأن نسمع ونرى ونقرأ ما يجري هناك، بل لم يعد هناك طَرْفٌ يرفّ حتى بالنسبة إلى المسئولين في بلدان كثيرة، ورأينا كيف أن وزير الخارجية المصري أحمد أبوالغيط وجّه رسالة قاسية للفلسطينيين عندما قال: «من سَيَقْدِم على كسر الحدود بين مصر وقطاع غزة ستُكسر قدمه». أبوالغيط قال هذا الكلام في الوقت الذي يمرّ فيه الفلسطينيون بأقسى أنواع التجويع والحصار والاستهداف من قِبل إرهاب الدولة، ومَنْ لم تكن له دراية بما حدث بعد تثغير الحدود بين قطاع غزّة ومصر فعليه أن يعلم بأن الحكومة المصرية لم تتكبّد خسائر ذلك النزوح البشري بالشكل الذي يدفعها لأن تتوعّد، بل إن المعلومات تشير إلى أن أهالي غزة أنفقوا خلال فترة انهيار الحدود أكثر من 400 مليون دولار داخل السوق المصري! صُرِفَت كلها في شراء الأسمنت والمحروقات بشتى أنواعها والمواد الغذائية، وقبل ذلك كله فإن الأمر لم يكن أكثر من واجب جيرةٍ قديمة، وحالة إنسانية من نوع فريد تُقاربها القومية ويشدّ من أزرها الدين، ويُزنّرها المشهد الكئيب لمليوني محاصر.
بالرجوع إلى إدمانيات المشهد الفلسطيني سنرى أن هذا الإدمان قد تحوّل إلى ترف وابتذال للمشاعر وتسخيف للانحياز، فالمراكز الحقوقية المتابعة تفيد بأنه ومنذ سبتمبر/ أيلول 2000 ولغاية نهاية أكتوبر/ تشرين الأول 2006 بلغ عدد الجرحى من الفلسطينيين 48021 في حين وصل عدد الشهداء إلى 4516، بينهم 868 شهيدا دون سن الثامنة عشر، كما بلغ عدد السُكّان الذين هُدمت منازلهم بشكل كلي 10491، والسكان الذين هدمت منازلهم بشكل جزئي 11466، وفي محافظة رفح وحدها تمّ هدم 6247 منزلا بشكل كامل، كما بلغت عدد الدونمات المُجرّفة لأراضٍ في القطاع 20847 توزّعت على الشمال 8852 وغزّة 2486 والوسطى 2360 وخان يونس 4665 ورفح 2484 وهو ما يعني أن نسبة الأراضي المجرّفة من مجموع الأراضي الزراعية في القطاع هي 13 في المئة.
وهنا يمكنني أن أفهم عن هذا المشهد من جانبين، الأول ما بات يعْلق في الثقافة العالمية من اختلاف القيمة الإنسانية، حين يهتز الكون لموت جندي أميركي أو صهيوني وتُستدعى زوجته وأولاده ووالديه ينتحبون أمام شاشات أكثر القنوات الفضائية تشكيلا للعقول، في حين يُدهس الآلاف في فلسطين المحتلّة أو الكونغو من دون أن يسمع عنهم أحد، والثاني هو ضياع التلازم السياسي والحقوقي والقومي الواجب بين شعوب المنطقة، وتحول الصورة النصيرة إلى صورة بلا روح يحتمي منها المشاهد كاحتمائه من عدوى فاحشة.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 1987 - الأربعاء 13 فبراير 2008م الموافق 05 صفر 1429هـ