العدد 1987 - الأربعاء 13 فبراير 2008م الموافق 05 صفر 1429هـ

جريمة سياسية

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

يشيّع لبنان اليوم شهيد حزب الله عماد مغنية في احتفال مهيب. ويتصادف التشييع مع إحياء قوى «14 آذار» الذكرى الثالثة لاغتيال رفيق الحريري. المصادفة ربما تكون بداية وصل أو قطع بين الطرفين وذلك حسبما تتجه نحوه توظيفات جريمة الاغتيال التي وقعت أمس الأول في دمشق. الجريمة خطيرة للغاية؛ لأنها استهدفت أحد رموز حزب الله الأمنية والمطلوب دوليا من أكثر من جهة. ومكان وقوع الاغتيال يعتبر الأخطر لكونه يفترض أن يكون آمنا ومحصنا ومن الصعب اختراقه.

مغنية كان حتى أمس على رأس اللائحة المطلوب تصفيتها، وهو ملاحق من شبكات مخابرات نظرا إلى كثرة الاتهامات الموجهة ضده. الاتهامات لا يمكن حصرها وربما تحتوي على مبالغات إعلامية تحرص الأجهزة الأميركية دائما على ترويجها؛ حتى تبرر للرأي العام ودافع الضرائب الأسباب الموجبة لتضخم موازنات أجهزة الاستخبارات (16 جهازا) في العقدين الأخيرين.

مغنية متهم بلائحة طويلة تشمل عشرات الأفعال التي تتضمن تفجيرات وتفخيخات وخطف طائرات وأجانب. وطول اللائحة جعل الاستخبارات الأميركية تضع مكافأة تبلغ 25 مليون دولار لكل من يدلي بمعلومات عنه أو عن أمكنة سكنه وتحركاته واتصالاته. المكافأة العالية تؤكد مدى أهمية مغنية في عالم غامض الهوية والعنوان ويعتمد سياسة التلون والاختراق والعمل من تحت الأرض. ولهذا الأمر تعتبر جريمة الاغتيال خطيرة للغاية؛ لأن الطرف المنفذ ميدانيا توصل إلى تحديد مكان الضحية في منطقة آمنة ولجأ إلى تطبيق الخطة مستخدما أسلوب التفجير من دون خوف من العواقب أو التعقب والملاحقة. عالم المخابرات مخيف في مدلولاته ومجهولاته وشبكاته وخلاياه ووسائله واستخداماته. ومثل هذا العالم المغلق تلعب في إطاراته الداخلية منظومة من الشبكات التي تمتلك إمكانات التكيف مع المألوف؛ حتى تتمكن من تحقيق أغراضها السرية.

اغتيال مغنية المطلوب أميركيا وإسرائيليا في العاصمة السورية يعتبر في عالم المخابرات من «الإنجازات النوعية» التي يرجح أن تتباهى بها واشنطن وتل أبيب سريا. فالاغتيال يصب في صالح أميركا ويخدم «إسرائيل»؛ لأن مغنية متهم بتنظيم وتخطيط وتوجيه عشرات العمليات النوعية ضد مواقعَ عسكريةٍ وأمنيةٍ تابعةٍ للولايات المتحدة والاحتلال الإسرائيلي.

المستفيد الأول من اغتيال مغنية هو التحالف الأميركي - الإسرائيلي باعتبار أن التحالف المذكور هو الأكثر تضررا. لذلك لم تتردد قيادة حزب الله في تحميل تل أبيب مسئولية الاغتيال حتى لو نفى مكتب إيهود أولمرت علمه بالعملية. فالجريمة التي وقعت في دمشق لا ترفع الشبهات عن الطرف المستفيد منها وهذا ما أوضحته الكثير من المصادر الإسرائيلية التي عبّرت عن فرحتها بوقوع الاغتيال.

حلقة مفصلية

الضربة لاشك قوية لأنها أصابت في مقتل حلقة مفصلية تعتبر نقطة تقاطع تربط الكثير من الخيوط. وبغض النظر عن تلك المبالغات التي تلجأ إليها عادة أجهزة الإعلام الأميركية يعتبر مغنية على رأس المطلوبين على اللائحة. فالملف ضخم ويشمل أوراقا تتصل بالعشرات من الأعمال التي تصنّف أميركيا على قائمة الإرهاب الدولي.

مع ذلك تبقى هناك مجموعة أسئلة تتجاوز مكان الجريمة وتوقيتها ولماذا حصلت الآن؟ وكيف؟ ولمصلحة من نفذ الاغتيال؟ فالأسئلة المطروحة ليست أمنية؛ لأنها تتصل بموضوع التوظيف. كيف ستوظف جريمة الاغتيال؟ وما الطبيعة السياسية لارتكابها؟ ومن الطرف الذي سيستثمرها؟ وما المقصود من ترتيبتها أو تنفيذها بالشكل الذي تمت به؟

سياسة التوظيف ترسل إشارات تنبيه مهمة. فهي من جانب تثير التباسات عن المكان والزمان والفاعل، وهي من جانب آخر يمكن ان تستثمر سياسيا لتسديد ضربة معنوية في اتجاهات متعارضة.

هناك أولا مسألة الاختراق وكيف نجح الطرف المستفيد من تحقيق غرضه في مكان صعب أمنيا. وهناك ثانيا احتمال إثارة شبهات ترفع درجات الشكوك ودور الحلقات الصغيرة في تمرير خطة نوعية في عالم مجهول ومغلق. وهناك ثالثا إمكان استخدام الاغتيال وتوظيفه سياسيا لدفع القوى اللبنانية الساخنة والحامية للانجرار في مشروع فتنة أصبح جاهزا للانفجار.

لوي الحقائق مسألة سهلة في عالم المخابرات والشبكات السرية التي تعمل تحت الأرض وبعيدا عن الأضواء. فهذا العالم يمتلك قدرات على التزوير والتأويل والافتراء واختلاق المبررات لدفع الشبهات بعيدا نحو جهات أو زوايا يريد معاقبتها أو الاقتصاص منها. وهذا النوع من التحليلات والقراءات يلعب أحيانا دور القناع الذي يغطي الحقائق ويدفع القوى نحو التضارب الإعلامي أو الاقتتال الميداني بهدف إعادة توظيف الاغتيالات في حقول سياسية يمكن استثمارها في تطوير علاقات أو تخريب صداقات وتحالفات.

جريمة اغتيال مغنية سياسية في الدرجة الأولى، وذلك لسبب بسيط وهو إن معظم الاتهامات الموجهة ضده سياسية تتصل في غالبيتها بالتخطيط أو الإشراف على تنفيذ عمليات ضد مواقعَ عسكريةٍ وأمنيةٍ أميركيةٍ وإسرائيليةٍ. وهذا النوع من الجرائم لا تعلن الجهة الفاعلة مسئوليتها عن ارتكابه بغرض إخفاء بصمات المجرم وهيئة المنفذ. لذلك يرجح أن تبقى الاتهامات سياسية باعتبار أن الجانب المستفيد من الجريمة أعرب عن سعادته لوقوعها حتى لو أنكر تدخله في تنفيذها.

الخوف الوحيد من تداعيات جريمة الاغتيال يقتصر الآن على محاولات توظيفها لبنانيا واستثمارها سياسيا وإعادة إنتاجها لجرجرة الأطراف المحلية نحو حفلة من الاتهامات المتبادلة كما هو حال هذا البلد المسكين والمستضعَف والمكشوف والمفتوح على تجاذبات إقليمية ودولية. ومحاولة استخدام الجريمة في إطار مناخات التشنج بين قوى «8 و14 آذار» يرفع نسبة الاضطراب في العلاقات الأهلية ويعطي فرصة للقوى التي تتحرك عادة تحت الأرض لنشر الأكاذيب وذر الرماد في العيون بهدف إبعاد الشبهات ورميها إلى المكان المناسب والزمان الخطأ.

اليوم يشيّع مغنية في الذكرى الثالثة لاغتيال الحريري. وهذه المصادفة ربما تكون بداية وصل أو قطع بين الطرفين. الوصل يعني بدء الانتباه لخطورة الكمين الذي يُسْتَدرج إليه لبنان، أما القطع فيعني أن القوى السياسية في هذا البلد الصغير لم تتعلم بعدُ من الإشارات والتنبيهات والدلالات.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1987 - الأربعاء 13 فبراير 2008م الموافق 05 صفر 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً