اختار أن يكون «قيس»، واختارت هي أن تكون «ليلى».
من بين كلّ الأسماء المستعارة «pseudonyms»، لم يلقَ هذان الزوجان العراقيان اللاجئان في سورية، سوى أسطورة العشق الشرقية – الوجه الآخر لروميو وجولييت- وبطليها العربيين لإخفاء هويتيهما في الشهادة على الواقع المر في العراق.
يحكي قيس قصة اختطافه قبل ثلاث سنواتٍ على يد إحدى الجماعات المسلّحة، عندما قاموا باقتحامِ كراج منزله، فقيّدوه وغطوا وجهه أمام مرأى زوجته الحامل التي كانت ترقب المشهد من النافذة، ثم ساقوه إلى مكانٍ بعيدٍ ومجهول.
«كان أكثر ما أخشاه أنْ تجهض الصدمة زوجتي الحامل في أشهرها الأولى»، قال قيس – مهندس الكمبيوتر- متحدّثا عن زوجته –المترجمة- ليلى.
قبل أشهرٍ من بدء الحرب على العراق، وتحديدا في 25 ديسمبر/كانون الأول 2002 م، تزوج قيس «السني» من ليلى «الكردية الشيعية»، فالزوجان البالغان من العمر 30 عاما، جمعهما القدر للعمل في الشركة نفسها، ولكنهما يبدوان الآنَ غريبين عن بعضهما بسبب الفرز المذهبي المستعر في العراق، رغم أن ذلك لم يكن قبل أربع سنواتٍ فقط من أدبيات العراقيين أنفسهم.
تقول ليلى: والدايّ شيعيان، لم يكن ذلكَ عائقا أبدا !.
ويردف قيس: الزيجات المختلطة بين السنة والشيعة في العراق شائعةٌ جدا، فوالدي «سني» وأمي «شيعية»، ونحن نعيش في حيٍ مختلط، وتقسيم المجتمع على أساسٍ طائفي لم يكن يطرأ على تفكيرنا».
في السنة الأولى بعد الحرب؛ «Ok» - قالت ليلى، ولكنّ الوضع بعد ذلكَ أصبح جحيما لا يُطاق. الحي الذي يقطنه الزوجان يبعد كيلومترا واحدا عن مدينة الصدر، ووقعَ فيما وقعَ تحت سيطرة الجماعات المسلّحة الشيعية، إذ تمَّت التصفية المناطقية على الأسس المذهبية، فقام السنة بأخذ مساكن الشيعة، والشيعة بأخذ مساكن السنة، فتكاد لا ترى حيا شيعيا فيه سني، أو حيّا سنيا فيه شيعي!
ومنذ ذلك الحين، بدأت نذر التهديد والوعيد تتوالى على قيس، وأولى تلكَ الرسائل كان في مارس/آذار 2004 م عندما انهالت عليه الاتصالات الاستفزازية، وأكثرها كانَ تهديده بأنهم سيجبرونه على تركَ زوجته الشيعية بالقوّة إنْ لم يقم بفعل ذلكَ طوعا.
يقول قيس: «كلّما جاءني اتصال تزداد حيرتي في معرفة هوية المتصلين، فعدت لا أفقه هل ذلكَ بسبب سنيتي، أم بسبب شيعية زوجتي؟. لقد غدت الزيجات المختلطة في العراق أمرا غير قابلٍ للتصديق. فجأة أصبح الجميع يسأل أقرباء ليلى: كيف تجرأتم أنْ تزوجوا ابنتكم لسنيٍ وتدعوها تعيش معه ؟!».
أكثر تلك التهديدات رعبا، كان في صباح أحد الأيام، عندما استيقظ الاثنان فوجدا رسما على جدار منزلهم «»Graffiti كُتب فيه:»دمكم مهدور !»؛ ليجئ 20 مايو/أيار 2004 م، فتلتقي أعينهم بخوفٍ ووداع، ليلى من خلف النافذة، وقيس يقادُ مع القتلة لمكانٍ بعيد.
ظلّ قيس ستةَ عشر يوما رهن الاختطاف، والجميع يحسده ؛لأنه عادَ سالما، فأكثر الذين يُخطفون لا يعودون، وبعد أيامٍ أو أسابيع قليلة، يتم العثور على جثثهم المهترئة بفعل التعذيب .
ورغم بقائه زهاء أسبوعين في قبضة خاطفيه، إلا أنّ قيس لم يتبين هويتهم المذهبية !، وهو يجزم بأنهم في منتهى الإجرام وليسوا من أولئك المتمذهبين قتاليا، وهمّهم الوحيد هو الحصول على المال، فهو على حدّ قوله لم يتعرّض للتعذيب أبدا، رغم كلّ التخويف والترهيب الذي تعرض له، والضغط الهائل على عائلته التي كان لزاما عليها أنْ تدفع ما يقرب من 25 ألف دولار لإطلاق سراحه.
بعد نجاتهِ من الخطف، فرّ قيس وليلى إلى سورية ومنها إلى صربيا، حيث يعيش عمّه منذ حوالي 28 عاما، وهناكَ رُزقوا بابنتهم البكر التي ظلّت بلا هوية؛ لتعذر تسجيل ولادتها في ظل عدم وجود ملحقيةٍ عراقية أوسفارةٍ في البلد نفسه، واضطرهم ضيق ذات اليد للرجوع ثانية إلى سورية، حيث يعتاشون حاليا على راتب أبوي قيس التقاعدي، لعدم سماحهم لهم بالعمل هناك.
يقول قيس متأسفا: كنت أحلم أن أبني بيتا، وأن أفتح مشروعا خاصا، والآنَ ذهب كلُّ ذلكَ أدراج الرياح. أمّا عن العودة للعراق فيقول أنه لا يفكّر في العودة أبدا: «أخشى مع هذا الاحتقان الطائفي أنْ يضغط أهل زوجتي عليها لتتركني».
إذا عدنا للعراق –تقول ليلى- فإننا سنضطر للمرور بالمناطق الشيعة والسنية معا..لا أحد يعلم ؟، إذا كنا سنقع في قبضة السنة بسببي، أم في قبضة الشيعة بسبب زوجي ؟
أطرقت ليلى برأسها للأرض، وقالت بصوتٍ خافت: وفجأة نكونُ في عداد الموتى !
العدد 1987 - الأربعاء 13 فبراير 2008م الموافق 05 صفر 1429هـ