تستعد قوى «14 آذار» لإحياء الذكرى الثالثة لجريمة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري. وتتصادف الذكرى مع موعد «عيد الحب» في 14 فبراير/ شباط الذي تحوّل في العام 2005 إلى كارثة سياسية زعزعت أركان الدولة وهددت الكيان ولا تزال آثار الضربة تتداعى حتى الآن.
جريمة الاغتيال شكلت منعطفا في الحياة اللبنانية وأدت إلى خلط الأوراق وبدلت التحالفات ودفعت طوائف ومذاهب من زاوية إلى أخرى. فكل شيء تغير تقريبا بعد حصول ذاك الزلزال السياسي، حين أخذت القوى تعيد النظر بتحالفاتها ورؤيتها لطبيعة الكيان اللبناني وضرورة المحافظة على وجوده.
قبل العام 2005 ظهرت مؤشرات لوجود تبدلات في السياسة اللبنانية وتحديدا تلك العلاقة المتأزمة مع الوجود العسكري السوري في بلاد الأرز. ولكن التطورات كانت محكومة بسقف من توازن المصالح منع نمو انقسامات تزعزع تلك الثوابت في العلاقات التاريخية بين البلدين. فالأمور ليست جيدة ولكنها لم تكن سيئة إلى درجة التفكك والانهيار.
آنذاك كان الخلاف يجري في إطار مظلة تسمح بنمو تعارضات من دون أن تؤدي إلى الانقطاع. والخلافات التي لم تكن تقتصر على جانب واحد كان بالإمكان ضبطها في معادلة «لا غالب ولا مغلوب». واستمر الوضع يتأرجح بين السلبي والإيجابي إلى أن تقرر التمديد للرئيس السابق اميل لحود في العام 2004. وأدى أمر تعديل الدستور إلى تفجير أزمة داخلية أعطت ذريعة للدول الكبرى بالتدخل وإصدار القرار الدولي 1559. وشكل القرار نقطة تحوُّل في توازن القوى وساهم في توتير العلاقات الأهلية في ظل تجاذبات دولية سمحت لدول مجلس الأمن بالتدخل في مختلف الأمور التي تمسُّ الكثير من النقاط الحساسة.
منذ التمديد دخل لبنان تحت سقف التدويل وبات التدخل يكتسب شرعية تستند إلى قرار ينص على مجموعة التزامات لا تستطيع الدولة تنفيذها. ومع ذلك لم تكن الأمور الداخلية وامتداداتها الاقليمية قد وصلت إلى حد الانقطاع إلى أن وقع ذاك الانفجار الرهيب (1800 كيلوغرام) أمام فندق سان جورج في بيروت.
الانفجار كان أكبر من قدرة لبنان على تحمله لأنه جاء يحصد الكثير من الأوراق في لحظة قاتلة واحدة. وأدت أصداء الانفجار إلى تشكيل تحالفات طوائفية ومذهبية رسمت علامات سياسية في مختلف الميادين والساحات المحلية والاقليمية، ما أدى إلى تعزيز الضغوط الدولية على دمشق واضطرار سورية إلى سحب قواتها من لبنان.
الانسحاب العسكري يعتبر خطوة ذكية اتخذتها القيادة السورية في اللحظة المناسبة. فهي من جهة ظهرت وكأنها استجابة لرغبة دولية وردت في فقرات القرار 1559، وهي من جهة أخرى تركت فراغات أمنية ساهمت لاحقا في تعديل التحالفات المحلية وكسرت معادلات كانت استقرت عليها الطوائف والمذاهب اللبنانية منذ مدة طويلة.
خطوة الانسحاب لم تكن بسيطة لكونها جاءت لتعيد النظر بسلسلة توافقات إقليمية تبدأ بما يسمى التفاهم السوري - الإسرائيلي الضمني على توزيع مناطق النفوذ في لبنان، وتنتهي باتفاق الطائف وما يعنيه من ترتيبات تضمن نظام المحاصصة الطائفي (الديمقراطية التوافقية). وترافقت الخطوة مع تصاعد التوتر الأهلي والاختلاف على كيفية إدارة التحقيقات بشأن جريمة الاغتيال التي امتدت تداعياتها دوليا. بعد الخروج العسكري أخذت الاغتيالات تأخذ أبعادها المحلية والاقليمية حين تواصلت حلقات المسلسل وظهرت التصفية الجسدية وكأنها سياسة ثابتة في التعامل مع الكثير من رموز قوى «14 آذار». وشكل موضوع الاغتيال المستمر مادة حيوية أعطت ملف التحقيقات الدولية دفعة تصاعدية إلى أن أقر مجلس الأمن صيغة المحكمة تحت البند السابع.
ثلاث سنوات
خلال الفترة الفاصلة بين الانسحاب السوري وإقرار المحكمة الدولية حصلت جملة تطورات خطيرة كان أبرزها ذاك العدوان المدمر في صيف 2006، وصدور القرار الدولي 1701 بشأن الجنوب، وانتشار الجيش اللبناني إلى جانب القوات الدولية (اليونيفل) على الشريط الحدودي بعمق 20 كيلومترا، وبدء الخلاف في الحكومة وانسحاب ستة وزراء، وتعطل مجلس النواب الذي ترافق مع الاعتصام المفتوح في وسط بيروت التجاري، وانفجار حرب مخيم «نهر البارد» في الشمال.
هذه التطورات أحدثت سلسلة انقسامات أهلية أضعفت موقع الدولة (المشلول أصلا) وأثارت مجموعة اضطرابات سياسية عنيفة وصلت أحيانا إلى شفير الفتنة. ولكن العامل الأهم من مجموع تلك المشكلات كان فشل النواب في التوافق على عقد جلسة لانتخاب رئيس للجمهورية.
«الفراغ الرئاسي» الذي مضى عليه نحو أربعة أشهر وضع بلاد الأرز في حال من «الفوضى المنظمة» وتحوّل إلى هاجس أمني أثار قلق الدول العربية التي سارعت إلى عقد دورة لمجلس وزراء الخارجية وأقرت مبادرة في محاولة منها للمساعدة على الخروج من المأزق.
حتى الآن فشل النواب في عقد تلك الجلسة ولا تزال المناورات والمفاوضات جارية لتأمين النصاب القانوني الذي يسمح بتعديل الدستور وانتخاب قائد الجيش رئيسا للجمهورية والبدء في تشكيل حكومة بديلة وتعديل قانون الانتخابات النيابية.
هذا المسار العام رسم خريطة طريق لتوزُّع الطوائف والمذاهب والمناطق السياسي وأعاد بناء تحالفات غير منسجمة مع تلك التي ظهرت فجأة وردة فعل على اغتيال الحريري. فالاغتيال شكل معسكرات سياسية آنية سرعان ما انهارت بخروج القوات السورية من لبنان لتتأسس في ضوء تحوّلاتها مراكز قوى تتجاذبها إقليميا مجموعة محاور ممتدة من طهران إلى غزة.
الانقسامات اللبنانية الآن دخلت في منعطفات حادة تهدد بتغيير تلك الصورة التي ارتسمت ميدانيا بعد جريمة الاغتيال وقرار دمشق بالخروج من لبنان. فالصورة باتت مختلفة ولم تعد زواياها متطابقة مع تلك التي ارتسمت قبل ثلاث سنوات. الفضاءات الدولية تبدلت مناخاتها والمخاوف اللبنانية من وجود صفقات أميركية - إقليمية تؤخر المحكمة الدولية أو تُمدِّد الفراغ الرئاسي أو تُمهِّد الطريق لعودة نوع من التفاهمات تشبه تلك التي صيغت في العام 1976 بين دمشق وتل أبيب أخذت ترتفع درجة سخونتها إلى حد الغليان والتبخر. وكل هذه المعطيات الطارئة على خط الأزمة اللبنانية الدائمة أعطت قيمة خاصة للذكرى الثالثة لموعد اغتيال الرئيس الحريري.
قوى «14 آذار» تستعد الآن لحشد أكبر جمهور في ساحة الشهداء (الحرية) في 14 فبراير للتأكيد على أن شعبيتها لم تتراجع بعد التنازلات التي قدمتها بشأن تسهيل مهمة انتخاب رئيس للجمهورية. كذلك تريد الإشارة إلى أن الزخم السياسي الذي تأسست عليه قبل ثلاث سنوات لم يفقد طاقاته في اعتبار أن موضوع المحكمة الدولية أعيد تنشيطه وإخراجه من درج الأمين العام للأمم المتحدة. والأمر الأخير (المحكمة) يعتبر نقطة مفصلية في تعزيز معنويات «14 آذار» لأن المسألة تشكل قاعدة صلبة للتجمع «الآذاري» وكل المجموعات الأهلية التي ترى في الاغتيالات سياسة إرهابية تعطل المؤسسات وتمنع الناس من حق التفكير بحرية وبعيدا عن الضغوط والتخويف.
خسرت «14 آذار» الكثير وبقي عندها القليل. ولكن ما تبقى لديها لا يزال يشكل قوة زخم لتجديد طاقاتها وأنشطتها. فهل تنجح في الاختبار الذي تعوِّل عليه غدا؟ يوم الخميس ليس بعيدا... فلننتظر.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1986 - الثلثاء 12 فبراير 2008م الموافق 04 صفر 1429هـ