عاش جون ستيوارت ميل (1806 - 1873)، الذي تطرقنا إلى ليبراليته في مقالة الأسبوع الماضي، في العهد الذهبي للاستعمار الأوروبي الذي امتدت سيادته على مساحة واسعة من الكرة الأرضية. وبحسب تقصّي إدوارد سعيد، فإن السيادة الأوروبية على الأراضي بين عامي 1815 و1915 قد ازدادت «من 40 إلى 85 في المئة من المساحة الكلية للعالم». وفي ظل هذه الظروف كان من الطبيعي أن تكون حركة الارتحال الكبرى في اتجاه واحد، من الشمال إلى الجنوب ومن الغرب إلى الشرق فقط، حيث كانت جيوش الدول الأوروبية الاستعمارية ومبعوثوها الرسميون وعلماؤها وفنانوها ومغامروها يشدّون الرحال باتجاه الأراضي المستعمرة القريبة والنائية فيما وراء البحار.
ربما لم يدُر في خَلد ج. س. ميل أن النصف الثاني من القرن العشرين سيشهد حركة ارتحال كبرى إلا أنها في اتجاه معاكس، حيث دُحر الاستعمار وتفككت تلك الأمبراطوريات الكبرى التي لم تكن الشمس لتغرب عنها إبان عصرها الذهبي. وبدأت، في المقابل، حركة هجرة ضخمة من الجنوب إلى الشمال، ومن الشرق إلى الغرب. وإذا كانت أوروبا إبان القرن التاسع عشر والعقود الأولى من القرن العشرين، ضيفا ثقيل الظل على حوالي 85 في المئة من المساحة الكلية للعالم، فإن الحال تغيّرت في النصف الثاني من القرن العشرين، حيث أصبحت أوروبا مضطرة، هذه المرة، لمجازاة الإحسان القديم بإحسانها الجديد من أجل تحمّل ضيوفها الجدد وربما ثقيلي الظل كما كانت هي قبل ذلك بالنسبة لهؤلاء الضيوف الآتين من المستعمرات القديمة.
هذا قلب جذري لعلاقات الضيافة، وهو قلب أجبر أوروبا على البحث عن صيغ سياسية واجتماعية تحفظ التعايش السلمي بين ثقافتها الغربية وثقافات ضيوفها الجدد. وفي سياق هذه الهجرات الكبرى وهذا القلب الجذري لعلاقات الضيافة، ظهرت الحاجة إلى التعددية الثقافية.
والتعددية الثقافية Multiculturalism حركة بدأت في الصعود في سبعينات القرن العشرين في كندا وأستراليا، ولاحقا في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وأماكن أخرى من العالم. إلا ثمة مترادفا لهذا المصطلح ظهر في العقد الثاني من القرن العشرين في الولايات المتحدة الأميركية، والشخص الذي اخترع هذا المصطلح المترادف كان أحد المهاجرين اليهود من ألمانيا إلى الولايات المتحدة الأمريكية. وتجدر الإشارة إلى أن مصطلح التعددية كان كثير التداول في كتابات المفكرين الأميركيين من أمثال وليم جيمس وجون ديوي وراندولف بورن وآخرين، إلا أن كثيرين يرجعون الفضل في اختراع مصطلح التعددية الثقافية إلى المفكر اليهودي الأميركي من أصل ألماني هوراس كولين (1882 - 1974)، حيث استخدم كولين مصطلح التعددية الثقافية كصيغة سياسية بديلة ومضادة لسياسة الولايات المتحدة الأميركية في «بوتقة الصهر» Melting-Po. ويجادل كولين بأن التنوع الثقافي هو دعامة لتأسيس أميركا قوية.
تتشابه حياة هوراس كولين مع حياة أشعيا برلين في كثير من التفاصيل، فالاثنان يهوديان هاجرا منذ صغرهما إلى بلاد أنكلوساكسونية. فأشعيا برلين يهودي أُجبرت عائلته على الهجرة من لاتفيا إلى إنجلترا إبان الثورة الروسية، فيما هاجر كولين مع عائلته اليهودية من ألمانيا إلى الولايات المتحدة الأمريكية في العام 1887. ولدى الاثنين ميول صهيونية واضحة، إلا أنها أقوى لدى كولين الذي كان عضوا في معظم المنظمات الصهيونية في أميركا، ومن دعاة إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، فيما كان لدى برلين نزعة شكوكية منعته من الانضمام إلى أي تجمع صهيوني. وعلى رغم من أنه كان يؤيد الأيديولوجيا الصهيونية ويطالب بوطن لليهود، إلا أنه كان يعتقد أن هذا الوطن هو حلّ لمشكلة اليهود المشردين بلا مأوى، وليس وطنا ليهود العالم ممن يقيمون في بلدان آمنة ومستقرة. كما كان يمتلك الجرأة ليعترف بأن معالجة مأساة اليهود قد تمّ على حساب الفلسطينيين، وأن قيام دولة إسرائيل خلق مأساة الفلسطينيين الذين أصبحوا «ضحايا الضحايا» كما كان يقول إدوارد سعيد؛ ولإنصاف الطرفين كان برلين يطالب بحل الدولتين: «إسرائيل» وفلسطين.
إلا أن التشابه الأعمق بين الاثنين يتجلى في طريقتهما في التنظير لفكرة التعددية الثقافية، فإذا كان أشعيا برلين قد أسس التعددية على قاعدة ليبرالية، فإن كولين قد أسس الليبرالية على قاعدة التعددية. فهذا الأخير يعتقد، تماما كما اعتقد برلين من بعده، أن الانتماء إلى واحدة من الجماعات والاشتراك في ثقافتها الخاصة «له أهمية عظيمة من أجل هوية الشخص الذاتية، وإدراكه لقيمته وكرامته، وتنمية إنسانيته الكاملة»(M.Kallen, in:,The «Other» New York Jewish Intellectuals, p.148)، إلا أنه، وفي الوقت ذاته، يعتقد بأن العضوية في الجماعة ليست عضوية طبيعية ثابتة؛ ولهذا يدافع عن ارتباطات جماعية يكون الانتماء إليها طوعيا وباختيار الأفراد أنفسهم. ويذهب إلى القول بأن «كل الارتباطات ينبغي أن تكون طوعية»، وأن المرء إذا كان «لا يستطيع أن يختار أسلافه، فإنه يستطيع، بالفعل، رفضهم كما يفعل كثيرون». وعلى هذا فإن «على المرء أن يكون قادرا على رفض حقيقة أنه يهودي أو بولندي؛ لأن عضوية الجماعة ينبغي أن تكون من خلال «العقد» وليس كحالة ثابتة» (ص148). وتأسيس عضوية الجماعة على «العقد» والاتفاق بين أفراد الجماعة يعني أن هذه العضوية ليست ثابتة، «بل هي عضوية مرنة ومتحولة»(ص151) وقابلة للحلّ والتغيير.
وإذا كانت الارتباطات طوعية، والعضوية فيها مرنة ومتحولة، فإن المرء يستطيع أن يحتفظ بعضويات متعددة في ارتباطات طوعية متنوعة؛ «لأن أعضاء هذه الارتباطات يمتلك كل واحد منهم انتماءات متعددة، فالعضو في البار، على سبيل المثال، هو في الوقت ذاته مواطن، وعضو في أسرة، وعضو في الكنيسة أو الكنيس، وعضو في حزب سياسي، ونادٍ اجتماعي، وتنظيم لخريجي الجامعة... إلخ» (ص151). وهذا يؤسس للهويات المتعددة ليس في المجال العام وبين الجماعات فحسب، بل داخل الفرد نفسه، حيث يحتفظ كل فرد منا بمجموعة من الهويات، وهي هويات متنوعة بصورة يتعذر اختزالها.
تعدّ وثيقة إعلان الاستقلال التي كتبها توماس جيفرسون، وصادق عليها الكونغرس الأميركي في العام 1776، واحدة من الأدبيات الكلاسيكية في الليبرالية، ولهذا يعمد كولين إلى تأسيس تعدديته بالارتكاز على هذه الوثيقة، ويذهب إلى القول بأن التعددية هي تطبيق لتلك الحقوق التي تضمنها إعلان الاستقلال، فإذا «كان الناس خلقوا متساوين، ويتمتعون بالحق في الحرية والحياة والسعي لتحقيق السعادة، فإن هذا الحق غير القابل للتصرف يتضمن حقا آخر وهو حق الناس في أن يكونوا كما هم في الواقع، بكل ما فيهم من تنوع وتعددية، في الاعتقاد، والعرق، والجنس، والمهنة، والأفكار، والملكيات. وهذا يثبت الحق المتساوي لكل هؤلاء الناس المختلفين، كما يثبت أنهم أحرار في الصراع من أجل الوجود والنمو في حرية وسعادة كمختلفين» (ص150).
ونحن هنا أمام تعددية من نوع مختلف عما كان يقصده مفكرو التنوير الغربي حين يتطرقون إلى تعددية أوروبا، ويقصدون بها تعددية بلدانها، في حين أن التعددية التي ينظّر لها كولين تعددية تكمن في الجماعات أو الارتباطات الجماعية. وإذا كانت الليبرالية الكلاسيكية - كما هو حال ليبرالية ج. س. ميل - قد تأسست على التوفيق بين تعددية الأفراد وتعددية البلدان، فإن المطلب الملح في تعددية كولين هو حلّ التعارض بين تعددية الأفراد (كما في الليبرالية) وتعددية الجماعات (كما في التعددية الثقافية)، فهل حلّ مثل هذا التعارض ممكن؟ بالنسبة إلى كولين فإن هذا التعارض قابل للحل في صيغة توليفية يسميها «الليبرالية الأصيلة» genuine liberalism، التي تجمع بين ليبرالية الأفراد وليبرالية الجماعات معا. وكما يقول كولين، فإن «الليبرالية الأصيلة مطلوبة للجماعة والأعراق والقوميات، كما هي مطلوبة للأفراد»، بل إنه يذهب إلى المجادلة بأن ليبرالية الجماعات والأعراق والقوميات هي الشرط المطلوب لليبرالية الأفراد؛ لأن هذه الهويات الجماعية هي «المستودعات الحقيقية للفردية» (ص154). ها نحن مرة أخرى مع تعددية ليبرالية قريبة الشبه من تلك الليبرالية التعددية التي رأيناها لدى أشعيا برلين. وهي ليبرالية تختلف، بصورة كبيرة، عن ليبرالية ج. س. ميل الكلاسيكية. فالجماعات والثقافات والتقاليد، هنا، ليست عوائق أمام الفردية، بل هي الشرط الضروري لوجود الفردية والاستقلال الشخصي
إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"العدد 2286 - الإثنين 08 ديسمبر 2008م الموافق 09 ذي الحجة 1429هـ