العدد 2286 - الإثنين 08 ديسمبر 2008م الموافق 09 ذي الحجة 1429هـ

الحاج مدبولي وصناعة الكتاب العربي

عبيدلي العبيدلي Ubaydli.Alubaydli [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

شيعت القاهرة، ومعها - عاطفيا - الكثير من العواصم العربية الأخرى، ظهر يوم السبت 6 أكتوبر/ تشرين الأول 2008 جثمان الناشر المصري محمد مدبولي الذي وافاه الأجل بعد صراع مع المرض استمر عدة أشهر. مشوار طويل مليء بالصعاب والمرارة قطعه الحاج مدبولي مع صناعة الكتاب العربي، بدأه عندما كان طفلا يوزع الصحف والمجلات ووصل إلى نهايته ملكا لواحدة من أبرز دور نشر للكتاب العربي ومن أهم قنوات توزيعه.

من يبحث عن سيرة حياة الرجل على الويب، سيجد الكثير مما قيل فيه أو نقل عنه، فقد كان مدبولي ظاهرة فريدة ومتميزة نجح في مراحل كثيرة من تحريك حالة النشر العربية الآسنة. تحدى مؤسسات الأمن العربية كصاحب مكتبة لبيع الكتب، وناطح، في حالات كثيرة وحيدا، مقص وتخلف رقيب المطبوعات العربي. تحمل كلفة وأعباء وهموم كل ذلك، في صمت يقترب من صمت أبو الهول، وصبر كصبر أيوب.

في تأبينه، أطلق على الحاج الكثير من الألقاب من نمط: «ناشر الممنوع»، «شيخ الناشرين المصريين»، «عميد النشر العربي»... إلخ. لكن مدبولي يحتاج فوق تلك الألقاب مجموعة أخرى من الصفات التي لم ترد في ما قرأته من مراث له.

أول تلك الألقاب «السبنسرية» أو تشابهه مع أحد مليونيري هذا العصر والذي هو «ماركس أند سبنسر»، كلاهما بدأ مشواره التجاري على عربة. سبنسر، كان يبيع بقايا لفات القماش على عربته قبل أن يتحول إلى مالك لأكبر المحال التجارية في العالم، وهو ما يقوله عنه حفيده في كتابه الصادر في الثمانينيات والمعنون «لا تسأل عن الثمن: إنه بنس واحد فقط» (Do Not Ask for the Price: It is a Penny). وكذلك الأمر بالنسبة للحاج، فقد بدأ إمبراطوريته ببيع الصحف على عربة متنقلة صغيرة قبل أن يفتتح «مكتبة مدبولي» التي أصبحت أشهر مكتبة وسط العاصمة المصرية على مدى 50 عاما.

ثاني تلك الألقاب أو الصفات هي الريادية (Entrepreneur)، فقد تمكن، بخلاف غيره الكثيرين من الناشرين والموزعين العرب، من خلال تلك النظرة المستقبلية الرائدة، أن يكتشف سوقا عذراء لسوق الكتاب العربي، هي سوق الممنوعات، فولجها بجرأة وحقق، بالإضافة إلى مكاسبه المالية وأرباحه التي جناها، حضورا ثقافيا للمعارضة العربية التي كانت أفكارها شبه محظورة، دع عنك حقها الشرعي في الترويج لأفكارها وقيمها العقيدية خلال فترة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي.

ثالث تلك الصفات، الإدارة الناجحة، أو ما أصبحنا نطلق عليه اليوم «إدارة العلاقات مع الزبائن» والرديف الأجنبي لها (Customer Relation Management)، إذ تمكن الحاج، وبعفوية، أن يميز زبائن مكتبته الواقعة في ميدان طلعت حرب بالقاهرة. فقد كان للحاج مكتبتان، الأولى علنية يؤمها من يبحث عن عناوين الكتب غير الممنوعة، والأخرى في عمارة مجاورة تفتح أبوابها لمن يعتقد الحاج أنهم من قراء الكتب «المحرمة» حينها. لم يكن لدى الحاج حاسوبا يصنف كل فئة من زبائنه، لكنه، عوضا عن ذلك، يلجأ إلى عفويته التي لا تخونه في الحكم على الفئة التي ينتمي إليها الزبون الواقف أمامه.

بنى الحاج بفضل تلك الحاسة السادسة التي يمتلكها، شبكة واسعة من الزبائن، تنتشر من بلدان الخليج حتى أقصى بلدان المغرب العربي. هذه الشبكة، كانت في البداية محصورة في الشراة، ثم تطورت، رويدا رويدا كي تشمل المؤلفين أيضا، وكان بينهم أقلام جريئة مثل نزار قباني ونوال السعداوي.

رابع تلك الصفات، التكاملية، فقد بدأ الحاج حياته المهنية، إن صح القول، موزعا، لكنه عندما اكتشف، بفضل سياسة الرقيب العربي، أن هناك الكثير من العناوين التي لا تعرف طريقها إلى القارئ العربي، من جراء جبن دور النشر العربية وتخوفها من أن تحظر مطبوعاتها من الوصول إلى الأسواق العربية أو معارض الكتب العربية، نظرا لموضوع الكتاب أو بسبب مؤلفه. حينها بادر الحاج مدبولي إلى اقتحام صناعة النشر العربي، مكملا بذلك حلقات صناعة الكتاب العربي التي تبدأ بالتأليف، وتعرج على الطباعة والنشر، كي تصل إلى التوزيع والبيع. تحمل مدبولي تبعات وأكلاف دورة صناعة الكتاب كاملة بجرأة ومن دون خوف من الرقيب العربي أو سلطات القضاء التي تقف وراءه. كلفه ذلك ما يربو على 24 قضية ومحاكمة، لكنها بنت له علاقات وثيقة مع زبائنه، مؤلفين قراء، عوضته عن الآلام والخسائر التي سببها له الرقيب والقضاء في آن. وأتاحت فترة الستينيات لمدبولي فرصة الاطلاع على متطلبات السوق للكتب الماركسية والوجودية والمسرحية فبدأ بترجمتها ونشرها وتوزيعها.

خامس تلك الصفات، هي البحرينية من جراء علاقته المميزة مع المعارضة البحرينية، ففي السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، وعندما كانت المعارضة البحرينية ومثقفيها في المنافي، كان الحاج مدبولي قناتهم التي أوصلت الكثير من الكتب الممنوعة والمحرمة إلى البحرين. ومن أهم تلك الكتب، كان كتاب حول الأمن الخليجي الذي تمت طباعته في النصف الثاني من السبعينيات، وكانت مكتبة مدبولي مزار المعارضة الخليجية، وخصوصا البحرينية لاقتناء ذلك الكتاب، و»تهريبه» إلى البحرين

إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"

العدد 2286 - الإثنين 08 ديسمبر 2008م الموافق 09 ذي الحجة 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً