العدد 1985 - الإثنين 11 فبراير 2008م الموافق 03 صفر 1429هـ

اللبنانيون... والحاجة إلى الانتحار

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

التصريحات العنيفة التي تبادلها أركان قوى «8 و14 آذار» بمناسبة فشل الوساطة العربية في التوصل إلى عقد جلسة لانتخاب رئيس للجمهورية وصلت إلى درجة التبخر في رؤية تعقيدات الواقع وتفصيلاته ومخاطر الانزلاق إلى فتنة أهلية تحرق الأخضر واليابس.

التبخر عادة لا يحصل إلا بعد ارتفاع درجة الحرارة إلى مستوى الغليان. وحين تصبح الحرارة على هذه الدرجة يتحول الماء إلى بخار. وهذا ما يمكن استنتاجه من تلك التصريحات العنيفة التي تعكس درجات التوتر والقلق والخوف والتخويف. فالكل خائف في لبنان ولكن الأطراف الواعية والمعنية مباشرة بتداعيات الكارثة لا تبذل جهدها لمنع تطور التعارض الأهلي إلى منطقة التناقض الحاد.

الكل خائف والكل يعمل على طرد عناصر الخوف إلى الجهة المقابلة. وهذا الأمر يشير فعلا إلى بدء نمو ذاك الاستعداد النفسي للانتحار. والانتحار السياسي يتأتى من مجموعة عوامل تدفع الأطراف إلى خوض معركة كبرى على رغم اقتناعها الداخلي بأنها لن تربحها. فالانتحار ناجم من اليأس في التوصل إلى مخرج للأزمة. كذلك يصبح الملاذَ الأخيرَ حين تكتشف الأطراف المعنية أنها مهما فعلت فسيكون مصيرها الموت الناجم من الحصار الطويل.

التصريحات العنيفة التي انطلقت الأسبوع الماضي تؤشر إلى وجود حالات من الانغلاق السياسي الذي يولّد عادة شرارات نفسية تتلفظ عبارات الشتم والاحتقار والاستعداد للمواجهة العسكرية والانتحار الجماعي. ولبنان كما يبدو من تلك الانفعالات السياسية المتبادلة أصبح في وضع جاهز للانتحار. وهذا الأمر لا يحصل إلا ردا على وقائعَ جاريةٍ على الأرض وناجمة من محصلة فضاءات دولية وإقليمية وجوارية ومحلية. والانتحار حالة مرضية لا يقع إلا حين يبلغ اليأس درجته العليا ويصبح المرء أمام خيار الموت الهادئ أو القتل العنيف أو المغامرة. وحين تتوصل الأطراف اللبنانية إلى هذا المستوى غير العقلاني في التعامل مع الوقائع فمعنى ذلك أن اليأس السياسي وصل إلى طريق مقفل وباتت الأطراف غير قادرة على فتح ممر يكسر دائرة الحصار.

لبنان كما تبدو أموره من خلال ملاحقة تلك التصريحات العنيفة أنه بات جاهزا للانتحار، أو على الأقل أصبح في وضع غير قادر على التكيف مع المتغيرات الإقليمية والتحولات الدولية. وعدم القدرة على التكيف تعتبر من النقاط السيئة في النشاط الذهني وقصور العقل على التقاط إشارات تساعد على ابتكار آليات تنقذ البلد من الانفجار. القصور الذهني يتأتى دائما من اليأس وإحساس الإنسان بأنه خسر كل شيء وما تبقى لديه لا يستحق عناء الحياة أو على الأقل لا يتطلب هذا الجهد لمنع خسارة ما تبقى لديه. وهذا النوع من الشعور اللاواعي يدفع دائما نحو المغامرة أو الانتحار.

اللبنانيون كما تظهر الأطراف من مشاهد الصورة وصلوا إلى درجة عليا من الإحباط وأخذوا يتخيلون أنهم خسروا كل شيء ولم يعد عندهم الشيء الكثير ليدافعوا عنه. وكل هذا يفسر دوافعَ تلك التصريحات العنيفة التي تراشقت بها الأطراف في الأسبوع الماضي. فالكلام المتطاير عن «الحرب» وعن «الحرق» وعن «عدم الخوف» يعكس في النهاية تلك الأفكار البخارية التي لا تصدر عادة إلا بعد ارتفاع الحرارة إلى درجة الغليان.

عوارض الانتحار

عوارض الانتحار السياسي الناجم عن الاستعداد لخوض المغامرة العسكرية تعتبر في النهاية محصلة أهلية نهائية لإفرازات العدوان الأميركي - الإسرائيلي على لبنان في صيف 2006. فذاك العدوان ساهم في توليد شرارات سياسية عجزت القوى المحلية عن احتواء تداعياتها. والعجز أفضل تعبير عن ضعف عقلاني في قراءة ما حدث. وبسبب تركيبة النظام الطائفية والمذهبية كان من الصعب على اللبنانيين تشكيل لجنة تحقيق وطنية تقوم بمهمة المراجعة النقدية للحرب وأسبابها وتداعياتها وإمكانات الاستفادة منها والبناء على دروسها وعبرها... كما حصل في «إسرائيل».

عدم القدرة على إنجاز قراءة لبنانية مشتركة للحرب (العدوان) ساهم في تشجيع أنواع مختلفة من القراءات توزعت ميدانيا على الطوائف والمذاهب. كل طائفة قرأت العدوان بالطريقة التي تراها مناسبة لظروفها. وكل مجموعة مذهبية فسّرت العدوان بأسلوب يخدم مصالحها ورؤيتها. وانتهت المراجعات إلى نوع من الاستفزازات الصغيرة التي لا معنى لها سوى استنفار العصبيات وتجييشها إلى درجة الاحتقان ثم الغليان... وأخيرا التبخر.

ضعف الدولة اللبنانية التي تعرضت لضربات موجعة خلال فترة العدوان منع الأطراف السياسية من التوحد على برنامج خلاص وطني ينقذ البلاد من التفكك والانهيار. وبسبب ضعف الدولة وتلاشي قدراتها نهضت مكانها القوى الأهلية لتلعب دور المنقذ في سياقات طائفية ومذهبية ومناطقية. وكانت النتيجة نمو حالات القلق والخوف وعدم الثقة واتهام كلِّ طرف الآخرَ بالخيانة والتعامل مع الأجنبي وتلقي الأوامر من جهات إقليمية ودولية.

«إسرائيل» في المقابل استخدمت أساليبَ مختلفة للتعامل مع الصدمة وتوصلت على طريقتها في تحديد عناصر الضعف والفشل والإخفاق والعجز وعدم التنسيق والاستخفاف بقوة الخصم وبدأت بوضع خطة للتخلص من عوامل الخوف والضياع والتردد تمهيدا للانتقام في الوقت المناسب. فاللجنة التي تألفت برئاسة القاضي (العنصري) فينوغراد شكلت ذاك الإطار القانوني لتنفيس الاحتقان.

هذا الفارق النموذجي بين لبنان و «إسرائيل» جاء أصلا ليؤكد وجود اختلاف بين الطرفين. فالجانب الإسرائيلي تتوحد في إطاره الهيكلي مؤسسات الدولة مع أجهزة الجيش. فالقوة الإسرائيلية واحدة غير موزعة على طرفين وبالتالي إن حسابات الربح والخسارة مشتركة ولا تترك ذاك المجال للتخمين والتأويل. وهذا التوحد الهيكلي يمنع إمكانات صدور تصريحات تتهم الآخر بالخيانة والعمالة. فالكل مسئول. الحكومة تتحمّل مسئولية التقصير والجيش يتحمّل مسئولية الإخفاق.

الجانب اللبناني غير موحد أصلا. الدولة في مكان ولها حساباتها الخاصة والمختلفة، والمقاومة في مكانٍ آخرَ ولها قراءات مستقلة عن رؤية الدولة، والرابط بين «الدولة» والمقاومة شبكة أهلية تعتمد نظام الملل والنحل (الطائفي والمذهبي) الموروث عن عهد السلطنة العثمانية. ومثل هكذا نظام يمنع الأهل من التفكير العقلاني والقراءة النقدية والمراجعة الوطنية المشتركة. فكل طائفة لها عقلها وكل مذهب له قراءة خاصة به. وبطبيعة الحال ستظهر قراءات متنوعة لا حصر لها؛ مما سينتهي إلى انفعالات اتهامية تشير بأصبع الخيانة إلى مختلف الجهات. فكل طائفة تتبرأ من المسئولية وكل مذهب يتهم الآخر بأنه يتحمّل نتائج العدوان وما أسفر عنه من دمار وضحايا وتقطيع أوصال.

في «إسرائيل» تشكلت لجنة «فينوغراد» واحدة. وفي لبنان انفلشت لجان «فينوغراد» متنوعة المذاهب ومتلونة طائفيا ومناطقيا. وفي المحصلة نجحت تل أبيب في وضع الأسس العقلانية لترميم الفجوات والثغرات، على حين نجحت الطوائف والمذاهب والمناطق في لبنان في وضع الأسس المجنونة للانتحار السياسي.

التصريحات الأخيرة التي انفلتت من إطارها العقلاني وصلت إلى درجة التبخر بعد أن ارتفعت الحرارة إلى مستوى الغليان. وحين تصل التحليلات والقراءات إلى مرتبة البخار، يصبح الانتحار (الذهاب بعيدا في المغامرة) من الأمور العادية وحاجة نفسية تعكس حالات من اللاوعي واليأس والشعور بالمرارة والإحباط وعدم الخوف من الموت باعتبار أن الأشياء الموجودة لا تستحق الحياة للدفاع عنها. إحساس اللبناني بأنه خسر كل شيء مسألة مخيفة. فهي تدفع في النهاية كل الأطراف نحو قرار الانتحار.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1985 - الإثنين 11 فبراير 2008م الموافق 03 صفر 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً