العدد 1984 - الأحد 10 فبراير 2008م الموافق 02 صفر 1429هـ

عظام إيران لن يسمع كسرها

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

تكمل الثورة الإسلامية في إيران اليوم (الاثنين، 11 فبراير/ شباط) عامها التاسع والعشرين. وربما يستحضر من قُيِّض له أن يواكب ذلك الحدث منذ نبتته الظاهرة أن يربط الثورة مطلع شهر فبراير العام 1979 (3 ربيع الأول من العام الهجري 1399 أو كما يسميه الإيرانيون 12 بهمن 1357 هـ. ش) حين عاد الإمام الخميني إلى إيران بعد عام من النفي القسري في تركيا (4 نوفمبر/ تشرين الثاني 1964 - 5 أكتوبر/ تشرين الأول 1965) وثلاثة عشر عاما أخرى في العراق (5 أكتوبر 1965 - 4 أكتوبر 1978) ومئة وثمانية عشر يوما أخرى في مقاطعة نوفل لو شاتو بفرنسا (6 أكتوبر 1978 - 1 فبراير 1979) فهو الحدث الحقيقي الذي به تشكلت زوايا هذه الثورة، وتحددت ماهيتها الميدانية المباشرة كصورة عملية للهوية السياسية العتيدة.

بطبيعة الحال فإن وصول الإمام في ذلك اليوم لم يكن أمرا عاديا؛ لأن رئيس الوزراء شهبور بختيار والمجعول لتسيير ما تبقى من النظام الملكي لايزال يعمل ويسانده جهاز «السافاك» والجيش، لكن الأجواء الحقيقية للداخل الإيراني بينت لاحقا أنها لم تكن تحتج إلا إلى نموذج تأويل بديل عن النظام المتهالك تنتظره أحلاف الهوامش البشرية الضخمة، وقيادة تملك الرؤية لتعرية السياسات الكلاسيكية وفي الوقت نفسه تعرض الحيِّزات الطاهرة المقابلة، وأيضا طرح الكيان النقي الخالي من التناقضات.

لذلك فإن أول خطاب للإمام الخميني ألقاه أمام الجماهير قال فيه «إنني لا أستطيع تقديم الشكر لهذا الشعب، لأنه قدم كل شيء في سبيل الله، والله سبحانه وتعالى هو الذي سيعطيه الأجر الجزيل، أنا أقدم مواساتي للأم التي فقدت ابنها، وللآباء الذين فقدوا أبناءهم، وللأبناء الذين فقدوا آباءهم، وعندما تقع عيني على البعض ممن فقدوا أولادهم أشعر بثقل على كاهلي لا أستطيع تحمله، إن محمدرضا بهلوي هرب وبدد جميع ما عندنا، فقد حطم بلادنا وعمَّر مقابرنا، لذلك فإنني أنصح الجيش وأشكره وأقول له: نريد أن يكون الجيش مستقلا، أيها السيد العقيد ألا تريد ذلك؟ أيها السيد الفريق ألا تريد أن يكون الجيش مستقلا؟ إنني سأقوم وبدعم هذا الشعب بتشكيل الحكومة، وسأُلقِّن الحكومة الحالية (برئاسة بختيار) درسا لن تنساه».

هذا الخطاب ربما كان اجترارا للخطاب السياسي والإعلامي الذي صدره حركته منذ العام 1963 والذي تمازج فيه العقيدي بالسياسي، وخلال بقائه في فرنسا وهي الفترة التي لم تتجاوز الأربعة أشهر إلا أياما أجرى الإمام خلالها 108 من المقابلات الصحافية والإذاعية لمحطات عالمية، وألقى 59 خطبة، وأصدر 36 بيانا وست برقيات أي ما مجموعه 209 من الأنشطة الإعلامية، بين خلاله توجهاته السياسية ورؤاه للقضايا الداخلية والإقليمية والدولية.

وكان الإمام حينها لا يروج لمشروعه باعتباره تصادميا بالقدر الذي كان يبعث فيه رسائل تتحمل التأويلات والتطمينات إلى حد ما، بل إنه لم يتحرج من أن يجعل ليبراليا على رأس الوزارة (مهدي بازركان) وأن يفتح الباب أمام المؤمنين بالإسلام الأولي للاستحلاب من اليسار، لكن ذلك كله لم يمنع الغرب من تحسس التمايز ما بين الحكم المُبشَّر به وما كان يقوم به نظام الشاه محمدرضا بهلوي من تماهٍ أعمى معه، لذلك أبدت العواصم الغربية هواجسها، فأخفى الجنرال هايزر الأنظمة السرية لمقاتلات إف - 16 وأعلنت مصارف سويسرا أنها لا تعتزم إرجاع الأموال الإيرانية إلى طهران، كما أعلنت لندن أن عقود شراء إيران الأسلحة من بريطانيا أُلغيت، وبدأت المماحكات معه تتراكم ككرة الثلج، من الخطاب الإعلامي إلى التّماس السياسي، ولاحقا إلى الحصار، والحرب المباشرة.

هذه كانت إرهاصات الحكم الجديد الذي تمثل دينيا بتوليفة غير معهودة، فحار في أمره الشرق والغرب، فنعت بالثيوقراطية حينا، وبالأوتوقراطية حينا آخر، وبين هذا وذاك بخس حقه وضيع ما تبقى من مشترك معه، فكان حصاره وتجيير الحرب ضده وتأليب جيرانه عليه وسائل ارتجاها الغرب لتحجيمه وفق عينيه، وعلى رغم كل ذلك فإن العالم أجمع أو تحديدا من دفع بذلك لم يتنبه لأمره إلا عندما شاهدوا نظام الملالي (كما يحبون أن ينعتوه) يكبر بين أعينهم، وتتعاظم قوته، وربما شاءت الأقدار أن يميل عنه غرماء الأمس لصالح مشروع تمزيق الأنداد والمناكفين من حلفاء الأمس، فتهاوت على حدوده الشرقية آخر أوراق التحالف الرأسمالي مع بقايا المجاهدين في أفغانستان بسقوط حكم «طالبان» في العام 2001، ثم انهار على جبهتها الغربية مدماك العداء القومي العروبي لها الذي حاربها صدرا بصدر في العام 2003، فتغير «جيبوليتيك» المنطقة بشكل حاد، لم يكن يتصور أحد أن يتشكل بهذه الطريقة، والإيرانيون يعلمون جيدا أنه لولا هذا الدفع لم يكن لحصلوا على الحظوة ذاتها التي يمتلكونها اليوم إقليميا ودوليا.

إيران اليوم ليست هي الدولة ذاتها التي قامت بعد 11 شباط/ فبراير قبل تسع وعشرين سنة، ليست هي من حيث الاقتصاد والسياسة والاجتماع والقوة العسكرية، وليست هي من حيث الأفهام أيضا، فإيران التي كانت تصدر مليون برميل من النفط يوميا يكفيها فقط لتأمين احتياجاتها من الوقود، باتت الآن تنتج أربعة ملايين ومئة وثمانين برميل من النفط يوميا، إيران التي كانت تدفع القسم الأكبر من عائداتها النفطية لشراء المواد النفطية المصفاة للبنزين والنفط الأبيض والكازوئيل أصبحت اليوم مستغنية عن 60 في المئة مما كانت تستورده من البنزين المكرر.

إيران التي كانت تعاني من عجز حاد في موازنتها بمقدار الخمسين في المئة والباقي تستدينه من البنك المركزي باتت موازنتها لهذا العام تتجاوز 289 مليار دولار كلها من مناشط التصدير والاستثمار ودورات الإنتاج، إيران التي باعت أو رهنت جميع احتياطها من الذهب في البنك المركزي من أجل تغطية تكاليف الحرب، باتت اليوم تمتلك خمسة أضعاف ما كانت تنتجه من الذهب بعد اكتشاف المنجم الضخم في منطقة سري غوناي بكردستان الإيرانية، أي ما يعادل أربعة ملايين طن من أحجار الذهب سنويا، ولديها أكثر من سبعين مليار دولار من احتياطي النقد الأجنبي (العملة الصعبة).

إيران التي كانت تستورد ملايين الأطنان من القمح الأسترالي والأرجنتيني، اكتفت داخليا منه وتجري مفاوضات مع مصر لتزويد القاهرة (فقط) بأكثر من 200 ألف طن من القمح لزيادة الاحتياطي الاستراتيجي من القمح لهيئة السلع التموينية المصرية، إيران التي كانت تقتات على الاقتصاد المركزي المؤمم الداعم للسلع المحدودة من دون دورة إنتاج أو خدمات مصرفية استثمارية أصبحت اليوم تمتلك اقتصادا متنوعا وصناعة نشطة وخطوطا تجارية ممتدة، كما أن لديها أكبر مصرف إسلامي في العالم برصيد يبلغ 154 مليار دولار متفوقة على المملكة العربية السعودية (69 مليار دولار) وماليزيا (65 مليار دولار) والكويت (37 مليار دولار) وبروناي (31 مليار دولار) والإمارات (30 مليار دولار).

إيران التي كانت تفتقد لقطع الغيار أصبحت اليوم تمتلك سبعة مصانع للسيارات، تستطيع أن تزود روسيا وحدها بـ1200 سيارة ومعها أربعة وثلاثين دولة أخرى، وباتت تصدر المكائن والفولاذ والبتروكيماويات، إيران التي كانت تقاتل ولمدة ستة أشهر على القنابل اليدوية خلال الحرب العراقية الإيرانية بسبب حظر السلاح أصبحت اليوم تُنتج الطائرات المقاتلة والرادارات والصواريخ الباليستية والطوربيدات والمُدرعات والدبابات والسفن الحربية، وتشيِّد أول مركز فضائي لإطلاق قمر اصطناعي ومحطة تحت الأرض للمراقبة ومنصة إطلاق أقمار اصطناعية.

إيران التي كانت تنقصها الطاقة المولدة للكهرباء في الداخل أصبحت اليوم تصدر الغاز إلى الصين واليابان والهند وتركيا وشمال أوروبا والإمارات و «قريبا» إلى البحرين وإلى الأسواق العالمية، بل إنها تمتلك محطة متكاملة لإنتاج الطاقة الكهروذرية في بوشهر، ومعاملا للماء الثقيل في أراك ونتنز، إيران التي كانت علاقتها مقتصرة على دمشق، أصبحت لديها جدران عازلة ومحاور صد ممتدة، كطهران - موسكر كمحور شمالي، وطهران - كاراكاس كمحور غربي، وطهران - بكين كمحور شرقي.

نحن كمراقبين نشهد للإيرانيين وهم يحتفلون بعيدهم التاسع والعشرين، أنهم حافظوا على ديمقراطيتهم (أو السيادة الدينية كما يسميها المحافظون) في أحلك الظروف، وكانت الانتخابات تجرى في الوقت الذي كانت الصواريخ العراقية تنهال على المدن الإيرانية، فلم تتكلس ثورتهم ولم يتقوض نظامهم السياسي، نشهد للإيرانيين أنهم وقفوا مع القضية الفلسطينية منذ أن حوَّل الإمام الخميني السفارة الصهيونية في طهران إلى مقر لمنظمة التحرير الفلسطينية بعد انتصار الثورة مباشرة، ومرورا بصفقة كارن إي، وانتهاء بالموقف من الحكومة الحمساوية ودعمها.

نشهد للإيرانيين دعمهم لسورية وللبنان ولحركة إعماره وتبني قضاياه منذ الحرب الأهلية واتفاق الطائف وإطلاق سراح الرهائن ودعم المقاومة بالمال والسلاح، نشهد للإيرانيين أنهم عضوا على جروحهم التي سببتها لهم الحرب مع العراق وانتصروا لصالح التسويات السياسية مع محيطهم وطوعوا شعاراتهم لصالحها، غير مكترثين بعقدة الإعلام العربي في بعض جيوبه المريضة.

بقي على الإيرانيين أن يفقهوا ما ينقصهم وهم يحتفلون بثورتهم، وهي باعتقادي لن تخرج (على الأقل خلال هذه الإثارة) عن ضرورة اهتمامهم بإعلامهم الناطق بالعربية، الذي بدا عليلا في كثير من جوانبه. صحيح أن مؤسسة الإذاعة والتلفزيون الإيرانية باتت تملك 39 شبكة تلفزيونية محلية ووطنية ودولية و40 محطة إذاعة مماثلة، لكن ذلك باعتقادي غير كافٍ بالنسبة إلينا نحن العرب الذين نتجاور مع إيران بكتلة بشرية تزيد على الثلاثمئة وثلاثة وعشرين مليون إنسان.

بالتأكيد لا تكفي قناتان عربيتان أو أكثر لكي يفهم العالم العربي إيران وسياساتها، ويستوعب مشروعاتها ونظرتها للأمور والأحداث، بل إن بقاء الإعلام الإيراني مترهلا لن يدرأ عنها خطر التهييج الطائفي والمذهبي الذي يجتاح المنطقة العربية والإسلامية، وربما لن يجدوا أبلغ من القرآن عندما يقول تعالى في «وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون» (القصص: 34)، كما أنني لن أدخر لهم قولا آخر غير ما قاله الحكماء «الفقه للأديان، والطب للأبدان، والنجوم للأزمان، والنحو للسان».

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 1984 - الأحد 10 فبراير 2008م الموافق 02 صفر 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً