بعد انقطاع لا تعرف أسبابه تعود اللقاءات «الفنية» و «التقنية» بين إيران والولايات المتحدة إلى تجديد تلك المحادثات الغامضة في غاياتها واستهدافاتها. فاللقاء الجديد الذي سيبدأ أعماله في بغداد برعاية حكومة نوري المالكي هو الرابع بين الجانبين. ويرجح أن تقتصر أوراقه على معالجة الملف العراقي إلا إذا كانت هناك ملفات أخرى لا يعلن عنها. فالجانب الإيراني لم يفصح حتى الآن عن التفصيلات، كذلك لم يكشف الجانب الأميركي الأبعاد السياسية المترتبة عن تلك اللقاءات. وما دامت الطبيعة السياسية غامضة الزوايا وغير واضحة ستبقى اللقاءات عرضة للتحليل والتأويل بانتظار أن ترتسم معالم الصورة ميدانيا. فالوقائع على الأرض تعطي أحيانا فكرة عن الاتفاقات والتوافقات حتى لو تعمدت الأطراف المتقابلة أن تخفي تلك الجوانب السياسية من اللقاءات.

غموض الطبيعة السياسية يطرح أسئلة بشأن السياق العام الذي يمكن أن تنتهي إليه تلك المفاوضات. ويزداد الأمر غموضا حين تطلب طهران من واشنطن رفع مستوى التمثيل السياسي والدبلوماسي وترفض إدارة الاحتلال الفكرة وتصر على إبقاء المحادثات على مستوى «الخبراء».

مسألة قصر التفاوض على مستوى «الخبراء» تثير مجموعة أسئلة عن طبيعية اللقاءات «الفنية» و«التقنية» وما هو المقصود منها ميدانيا. حتى الآن الزاوية غامضة في اعتبار أن الطرفين يرفضان توضيح معالم الطريق الثنائي الذي ستتضح في نهايته صورة «العراق الجديد». وبما أن الصورة لم تتبلور معالمها وتحتاج إلى وقت ليظهر العراق في شخصيته «الجديدة» يمكن القول إن اللقاءات بدأت تضع حجر الأساس في بناء كيان يرجح أن تكون هيئته مختلفة عن «العراق القديم».

عدم الوضوح لا يعني أن المجرى العام لتطور الصراع على «الشرق الأوسط الجديد» غير مسيطر عليه. فاللقاءات التي ستبدأ أعمالها قريبا تأتي في سياق تحولات وتوقعات. فهناك بداية قلق روسي من منظومة الصواريخ الإيرانية ومشروع التخصيب النووي. وهناك مراجعة أخيرة تجريها الدول الكبرى في مجلس الأمن على مشروع قرار جديد بشأن فرض المزيد من العقوبات على إيران. وهناك استعدادات عراقية لإعادة تشكيل حكومة نوري المالكي بعيدا عن «المحاصصة الطائفية». وأخيرا هناك اقتراب موعد الانتخابات التشريعية الإيرانية التي ستعطي نتائجها صورة مصغرة عن طبيعة السلطة في السنوات الأربع المقبلة.

مقابل الطرف الإيراني يواجه الطرف الأميركي متغيرات تفرضها مجموعة وقائع ميدانية وسياسية. فالإدارة الأميركية أعلنت عزمها عن سحب 30 ألفا من القوات ونقلها خارج العراق. كذلك أظهرت الإدارة أنها بصدد توقيع معاهدة أمنية مع حكومة المالكي لا تتضمن فقرات تنص على بقاء قواعد عسكرية دائمة ولا تلزم واشنطن بالدفاع عن بلاد الرافدين في حال تعرضها للخطر.

هذه الإشارات الأميركية تتلازم مع تحولات أخذت تطرأ على الجمهور الانتخابي ومزاجه السياسي في اختيار المترشح الأفضل للرئاسة. فالولايات المتحدة تمر في حال فوضى انتخابية منظمة والاتجاهات متضاربة في تحديد الهيئة المقبلة للدولة ولكن التوجه العام يشير إلى بدء التفكير في تعديل خطط الهجوم التي اعتمدتها إدارة الرئيس جورج بوش خلال السنوات السبع الماضية. ومثل هذا التوجه يمكن رصده من تلك التقارير التي تصدر عن وزارة الدفاع (البنتاغون) وتشير إلى وجود ضعف في بنية الجيش وعدم قدرته على مواصلة عملياته من دون توقف أو إعادة نظر في هيكليته وأسلحته وتدريباته ومهماته.

السياسة وطبيعتها

الطبيعة السياسية إذا ليست غائبة كليا عن تلك اللقاءات «الفنية» و«التقنية». فهي على رغم غموض زواياها وصورتها النهائية تشير إلى وجود نوع من المتغيرات في التحالفات الدولية والإقليمية. وهذا ما يمكن توقعه في الأشهر المقبلة في اعتبار أن المعركة الرئاسية ستأخذ صورتها الانتخابية بعد أن يختار كل حزب (الديمقراطي والجمهوري) مرشحه لخوض تلك الحرب التي سترتفع حرارتها من يونيو/ حزيران إلى نوفمبر/ تشرين الثاني.

شهر يونيو المقبل وما بعده سيضع الإدارة الحالية في حال من الضياع أو التردد وستضطر واشنطن إلى تحاشي خوض معارك حامية تثير ضدها ملابسات وإشكالات تحرج القوى الحزبية المتنافسة على كسب موقع الرئاسة. وبسبب هذا التوقيت يرجح أن تحسم إدارة بوش خياراتها العامة خلال الفترة الفاصلة من الآن إلى يونيو. والفترة الزمنية المتبقية لا تتعدى الأشهر الأربعة وهي ستكون متخمة بالتطورات وخصوصا على الجانب الروسي بعد خروج الرئيس فلاديمير بوتين من الكرملين.

ماذا يمكن أن يحصل في المنطقة خلال الفترة المتبقية؟ الجواب لا يمكن تصوره في حال لم تتضح الطبيعة السياسية لتلك اللقاءات الإيرانية - الأميركية في بغداد والمعنى المقصود من مفردات «فنية» و«تقنية». فهل تقتصر المفاوضات على الجانب العراقي فقط أم أنها تتجاوز حدود بلاد الرافدين؟ وماذا يمكن أن تقدمه أميركا لإيران مقابل تلك المساعدات والخدمات التي تقدمها إيران لأميركا؟

حدود التعاون تخضع دائما للشروط، ودفتر الشروط محكوم عادة بالقدرات والحاجات. فما هي الحاجة الأميركية وماذا تريده من إيران، وماهي قدرات إيران على تلبية تلك الحاجة؟ الأجوبة ستبقى مرهونة بالإمكانات الميدانية واستعداد كل طرف للتنازل أو القبول بالتنسيق من دون الانزلاق نحو توهمات ترفع من نسبة الضرر.

الأضرار وقعت. والدمار حصد أربع سلطات بعد أن أدت سياسة واشنطن إلى تقويض أفغانستان وفلسطين (الضفة والقطاع) والعراق ولبنان. مع ذلك تبقى أميركا الدولة الكبرى الوحيدة التي تمتلك مشروعها الخاص من أفغانستان إلى فلسطين. ففي هذه الدائرة لا وجود لدولة كبرى تنافس الولايات المتحدة على مشروعها. روسيا مثلا تحاول قدر الإمكان حماية حدودها وضمان أمنها القومي. والاتحاد الأوروبي (فرنسا تحديدا) لم يتوصل إلى صوغ مشروعه المستقل عن المظلة الأميركية. كذلك الصين لاتزال تنافس أميركا على الأسواق التجارية ولم تفكر بتطوير مشروعها ليشمل الجانب السياسي.

أمام هذه الفضاءات الدولية يمكن القول إن كل الأطراف الإقليمية في منطقة «الشرق الأوسط الكبير» تتحرك تحت سقف المشروع الأميركي. وبالتالي فإن كل اللقاءات والاتصالات السرية والعلنية أو السياسية والفنية تدور في إطار مظلة واشنطن ومصالحها ورؤيتها الخاصة لخريطة «الشرق الأوسط الجديد».

خريطة الشرق الأوسط «الجديد» لم ترتسم معالمها النهائية حتى الآن. ولكن ما يحصل في العراق وفلسطين ولبنان وأفغانستان من حوارات ومداولات يعطي فكرة مصغرة عن المدارات السياسية التي ستظهر عليها الخريطة. واللقاءات الفنية والتقنية التي ستتجدد قريبا في بغداد تعتبر زاوية من صورة غامضة سترتسم ألوانها ميدانيا في خريطة المنطقة.