لا تقف صناعات الدواء والأرقام الخيالية عند حدود عمليات التصنيع، بل تمتد إلى قطاعي التسويق والإعلانات بالشكل الذي أصبحت فيه عمليات التسويق للأدوية مثار جدل كبير. هذا الجدل بشأن عمليات التسويق والدعاية حمل تشكيكا واضحا بعمليات هذه الشركات التسويقية، متهما إياها بخداع المرضى واستغلال أوجاعهم من جهة، وبتواطؤ بعض الأطباء حول العالم بالاستفادة من عروض وعمولات التسويق.
تبدأ خطط التسويق الدوائي اليوم عند حدود نصف مليار دولار، وهو ما لا يعد ذا قيمة أمام مليارات الدولارات التي غالبا ما تجنيها الشركات خلف عمليات التسويق هذه. وتعتمد عمليات التسويق الدوائي على استمالة المرضى وحاجاتهم العلاجية باستمالات مباشرة لا تعلن بأي شكل من الأشكال عن الأعراض الجانبية للأدوية، وهو ما يمثل تلاعبا بعقول المرضى واستغلالا مباشرا لحاجاتهم العلاجية، وقد سجلت الكثير من التقارير الطبية أخيرا الكثير من الحالات التي تضرر منها المرضى جراء إقدامهم على استخدام أدوية أعلن عنها بشكل مثير من دون أن يستشيروا أطباءهم قبل تناولها. وتزداد في الغالب وطأة هذه الحملات التسويقية وتأثيراتها في الأدوية الجنسية والتجميل.
وتتلخص احتجاجات البعض بشأن عمليات التسويق لشركات الأدوية في أنها - الشركات - تعمد إلى إخفاء الكثير من الأعراض أو الآثار الجانبية للأدوية وخداع المرضى بإيهامهم بأن منتجاتهم لا تحمل معها أية أضرار جانبية. ولا تقف حدود هذا القلق من هذه الإدعاءات عند المرضى بل تمتد للجامعات والدوريات الطبية، خصوصا البريطانية منها. وأخيرا، ذهبت الكثير من الدوريات الطبية البريطانية إلى التهديد بـ «عدم نشر نتائج اختبارات الأدوية على صفحاتها إذا لم تجر تلك الاختبارات تحت إشراف هيئة مستقلة. وقد اطلع محرر دورية «لانسيت الطبية» ريتشارد هورتون قراءه في مقال له على أمثلة لـ «تجارب طبية نحيت فيها جانبا مصالح المرضى من أجل مصالح شركات الأدوية. وذكر حادثة مات فيها المريض بعد أن قلل معدو الدراسة من خطر أحد الآثار الجانبية القاتلة».
وفي هذا السياق أيضا، قالت رابطة صناعة الدواء البريطانية «إن صناعة الدواء لا تزال تحظى في المملكة المتحدة بمستوى عال من آداب المهنة، ولكنها قالت إنها تؤيد إشراف هيئة مستقلة على تجارب الدواء». ويذكر تقرير دوائي أخير أن «تسعة من كل عشرة محررين يعتقدون إن الأبحاث التي يراجعونها تُضخِم منافع الدواء، وأن نصف الأبحاث التي تعرض عليهم ترفض تماما، بينما تحتاج أبحاث أخرى إلى إعادة كتابتها قبل أن تنشر».
وقال هورتون « من المعروف أن الاختبارات الطبية مكلفة، وأن شركات الأدوية تحتاج إلى نفقات باهظة، فطرح دواء جديد في الولايات المتحدة على سبيل المثال يكلف حوالي خمسمئة مليون دولار أميركي، لكنه استدرك قائلا إن ارتفاع كلفة صناعة الدواء لا تعني إهمال مصلحة المرضى، وتشدد حاليا اللجنة العالمية لمحرري النشرات الطبية قواعد النشر، لكي تقيد نشر الدراسات التي تشعر أنها غير موضوعية».
وقالت النشرة الطبية البريطانية إنها أيضا ستطلب من ناشري الدراسات الإعلان عن بياناتهم الشخصية، والدور الذي اضطلع به راعي التجربة في الدراسة، وقال محرر النشرة، ريتشارد سميث، إن تلك المبادرة ليست هجوما على صناعة الدواء. كما عبر عن قناعته بأن شركات كثيرة تتمتع بصدقية في عالم صناعة الدواء ولن يضيرها الالتزام بتلك القواعد الجديدة».
وترتبط هذه الاتهامات عادة بدعايات مصنعي الدواء الأميركيين، الذين دائما ما تتهمهم الدوريات الطبية الأوروبية على أساليبهم الدعائية لمنتجاتهم الدوائية، وخصوصا تلك التي تختص بعلاج أمراض السمنة والتجميل. إذ غالبا ما تكون مكنة الدعاية الأميركية منحازة لبيان إيجابيات الأدوية من دون أي ذكر لمحاذير طبية في الاستعمال، وهو ما تعتبره الكثير من الدوريات الطبية مخالفا للقواعد الأخلاقية، فيما يؤكد الأميركيون أنها أنماط دعائية وترويجية ليس أكثر.
الأطباء وتسويق الأدوية
على الجانب الآخر، تقف الكثير من الانتقادات عند الدور الذي تلعبه شركات الأدوية على بعض الأطباء عبر عروضهم التسويقية وبما يشمل تذاكر السفر المجانية للاطباء، الذين يجدون انفسهم مرغمين على كتابة أدوية هذه الشركات. وتتعلق هذه المشكلة بوجه خاص بالأدوية الجنسية، التي يقوم بإنتاجها أكثر من مصدر، إذ غالبا من تعمد الشركات إلى استمالة بعض الأطباء عبر عروضها التسويقية لكتابة الأدوية خاصتها من بين أدوية الشركات الأخرى، وكذلك هو الأمر بالنسبة لبعض الصيادلة الذين يقومون بصرف الأدوية التي لا تحتاج لوصفة دوائية بالاعتماد على عروض ترويجية وتسويقية من الشركات. وتنتشر هذه العمليات المخادعة للمرضى في المجتمعات النامية، إذ تبدو مستويات الثقافة الدوائية لدى أفراد المجتمع متدنية.
تتسبب عمليات التسويق هذه في إنهاك محفظة المواطن العربي اليوم، إذ يضطر المريض الذي يثق بالطبيب والصيدلاني إلى زيادة نفقاته الدوائية لحساب مصلحة الطبيب والصيدلاني وشركة الدواء، في مقابل إمكان الحصول على الدواء نفسه من شركة أخرى وبسعر أقل. بعض الأطباء يتعمدون وضع عبارة على وصفاتهم تطلب من الصيدلي عدم تغيير الدواء لشركة أخرى، وهو ما يؤكد ذلك ما خلا بعض الأمراض المعقدة والتي يرى الطبيب ضرورة أن يلتزم المريض بدواء شركة ما بعينه.
وخلاف عمليات الخداع التي تعتمد على الأدوية الجنيسة التي تنتشر في المجتمعات النامية، تمتد اليوم حمى التلاعب إلى الأدوية المقلدة، وهو أدوية مقلدة غير حقيقية تنتشر في القارة السمراء، إذ لا تكون لأنظمة الضبط والرقابة حاكميتها في الرقابة على العقاقير الدوائية. عمليات الخداع هذه، تسببت بالكثير من المآسي في القارة الإفريقية التي ما زالت تعاني من انتشار هذه الظاهرة الخطيرة.
تطالب اليوم الكثير من الأوساط الأكاديمية المتخصصة تفعيل الثقافة الدوائية في المجتمعات النامية والتي تعاني من هذه التلاعبات التي تقودها شركات الأدوية التي تجني المليارات في كل عام، وتتضمن هذه المطالبات إدخال الثقافة الدوائية ضمن المناهج الدراسية والجامعية لخلق ثقافة دوائية قادرة على التعامل مع هذه التلاعبات وكشفها. إن إستمرار المجتمعات العربية على مستوى متواضع من الثقافة الدوائية هو أحد الأسباب الرئيسية في بقاء المستهلك العربي مغروما بالإنتاجات الدوائية الغربية، وذلك بسبب بقائه في حلقة فهم قاصر أو تحت وطأة معلومات غير دقيقة. وهو ما يؤثر بشكل مباشر على مستويات الثقة بالمنتج الدوائي العربي والإقبال عليه.
هكذا، تبدو عمليات التسويق والدعاية الدوائية كعامل أخر يؤكد أهمية دخول الاقتصادات العربية في هذا القطاع، ليس بإعتباره قطاعا إقتصاديا يحقق أرباحا خيالية فحسب، بل وبما هو ثقافة صحية تؤثر في المجتمع وتنهك موازنته.
العدد 1983 - السبت 09 فبراير 2008م الموافق 01 صفر 1429هـ