يواجه العالم اليوم معضلة أساسية. فقد شهدت السنوات الأخيرة زيادة سريعة في النمو الاقتصادي والعلمي والتكنولوجي؛ مما يعني تعزيز القدرة على التغلب على المشكلات المتصلة بالفقر والأمراض. غير أنّ الحالة الصحية تدهورت بشكل كبير في الكثير من البلدان النامية، ويرجع ذلك أساسا إلى ظهور أمراض فتاكة كالإيدز، وعودة وانتشار بعض الأمراض المعدية (السارية) وزيادة عبء وكلفة الأمراض غير السارية.
ومع توجه السياسات الاقتصادية في جميع أنحاء العالم إلى التحرر الاقتصادي في العقد الأخير من القرن الماضي، أنشئت منظمة التجارة العالمية في العام 1995م كهيئة عالمية لتعزيز تحرير تجارة السلع والخدمات، حيث أصدرت الاتفاقية المعروفة باتفاقية TRIPS المتعلقة بالجوانب التجارية لحقوق الملكية الفكرية (Trade Related Intellectual Properties). وكانت البنود الخاصة بالعلاج والدواء في هذه الاتفاقية مثار جدل كبير بين حكومات الدول المتقدمة والدول النامية، لارتباطها بمسألة حيوية جدا، وهي صحة الإنسان وحقوقه في الحصول على العلاج والدواء المناسب بكلفة معقولة. وقد توصلت الدول بعد مفاوضات مطولة ومضنية إلى مرونة نسبية فيما يتعلّق بالبنود الخاصة بالصحة في الاتفاقية فيما عرف بقرارات الدوحة في العام 2001م، والذي أعطى فترة سماح أطول للدول الأقل نموا قبل تطبيق حقوق الملكية الفكرية على البنود المتعلقة بالصحة والدواء.
إنّ العلاقة بين الفقر والمستوى الصحي وشدة عبء المرض واضحة جدا ولا تحتاج إلى إثبات. لذلك، نرى قسما كبيرا مما يعرف بالدول النامية والأقل نموا هي الأكثر معاناة من ناحية تدهور المستوى الصحي وانتشار الأمراض، وتراجع مستوى الأعمار.
ولا يحتاج المرء إلى كثير من البحث؛ ليؤكد حقيقة أنّ الدول النامية ليس لها نصيب يذكر من مزايا حقوق الابتكار والملكية الفكرية التي تنص عليها وتحميها الاتفاقيات الدولية. حيث أنّ الأبحاث والتطوير والابتكار متاحة بالأساس في الدول المتقدمة والتي تولي هذا الجانب أولوية قصوى كاستثمار يحقق أفضل العوائد. وعندما يتعلق الأمر بالابتكار في مجال الدواء فإننا نتحدث عن استثمار بمبالغ طائلة تصل إلى مئات الملايين من الدولارات. فابتكار دواء جديد يحتاج إلى فترة طويلة من العمل والتجارب المتنوعة والمتدرجة لضمان فاعليته وسلامته، وصولا إلى الحصول على الموافقات المطلوبة لاستخدامه، ومن ثم تسويقه.
ولا يختلف الكثيرون على أنّ من حق الجهة المبتكرة صيانة حقوقها للحصول على مردود مقابل ما أنفقته، وليكون دافعا لها ولغيرها لبذل المزيد من أجل توفير أدوية أخرى واكتشافات أكثر في المجالات المتعددة. وغالبا ما تطرح الجهات المبتكرة منتجاتها عندما يسمح لها بالتسويق بأسعار مرتفعة، وقد تكون هذه الأسعار في متناول الناس في البلدان الغنية، ولكنها بالتأكيد تشكل عائق كبير أمام المحتاجين لهذه الأدوية في البلدان الفقيرة.
وبما أن الدول الفقيرة ليس عندها ما تدفعه للشركات العالمية العملاقة لتوفير الأدوية الجديدة غالية الكلفة، حتى ولو كانت بحاجة ماسة لها، نرى هذه الشركات تركز في ابتكاراتها الجديدة على ما تحتاجه الدول المتقدمة والغنية، حيث إن إمكانات التسويق مضمونة، وتهمل احتياجات الدول النامية لأدوية جديدة لعلاج الأمراض المستوطنة فيها؛ لأنّ العائد المادي من وراءها قليلا إنْ لم يكن معدوما.
وهذا يضع العالم أمام معضلة كبيرة، وخصوصا منظمة الصحة العالمية، وهي المنظمة المعنية بالصحة في العالم يضعها أمام تحديات كبيرة. وهو ما حذا بهذه المنظمة للتحرك على وضع إستراتيجية وإطار عمل للتوفيق بين الابتكار وحقوق الملكية من جانب، والحاجة لتوفير العلاج والدواء لكل من يحتاج إليه بتكلفة مناسبة وخصوصا في الدول النامية من جانب آخر.
ولتحديد حجم معاناة الدول النامية وخصوصا الفقيرة منها، والتي تعاني بشكل كبير من تفشي الأمراض السارية، قام خبراء منظمة الصحة العالمية بتصنيف الأمراض التي تصيب البلدان إلى ثلاثة أنماط؛
* النمط الأول: وهي التي تحدث في البلدان الغنية والفقيرة على حد سواء، مثل أمراض العصر المعروفة كالقلب وضغط الدم والسكري، والأورام.
* النمط الثاني: وهي التي تحث في البلدان الغنية والفقيرة أيضا، ولكن النسبة الأكبر تحدث في الدول الفقيرة مثل مرض الإيدز والسل.
* النمط الثالث: وهي تصيب أساسا الدول النامية وخصوصا الفقيرة منها، مثل: الأمراض الوبائية الفتاكة، كالملاريا والأمراض الطفيلية الأخرى.
من خلال متابعة مستجدات البحث العلمي والتطوير والابتكار الذي يشهده قطاع الأدوية يتضح أنّ أمراض النمط الثالث لا تنال نصيبا يذكر من هذا البحث للحصول على علاجات جديدة ومبتكرة لهذه الأمراض، مع أنها هي السبب الأساس في الفتك بعدد كبير من سكان الدول النامية والفقيرة. ومن المعلوم أن البحث العلمي والتطوير وأدواته تتركز في الدول المتقدمة والغنية، ولا يوجد أساس قوي للبحث والتطوير والابتكار في أغلب الدول النامية.
ومن هذا المنطلق نشأت الحاجة إلى أهمية تسخير البحث العلمي في ابتكار أدوية وعلاجات لأمراض النمط الثالث تلبي احتياجات الدول الفقيرة منها وبأسعار معقولة، بعيدا عن أثار الحماية والاحتكار التي تحرم الكثير من الدول الفقيرة من الحصول على الأدوية المطلوبة والجديدة. وهو ما تقوم به حاليا معاهد أبحاث، وجهات خيرية أهمها مؤسسة بيل غيتس (مؤسس شرك مايكرو سوفت) وزوجته ميلندا التي رصدت أكثر من مائة مليون دولار لهذا الغرض.
ولن تتمكن منظمة الصحة العالمية من تحقيق هدف توفير الأدوية، وخصوصا الأساسية والضرورية منها بأسعار مناسبة لشعوب الدول النامية والفقيرة دون إيجاد آلية للتوافق بين طرفي الصراع الربح التجاري الذي تحميه حقوق الملكية الفكرية من جانب، والحاجة الماسة لهذه الأدوية من قبل شعوب الدول الفقيرة من جانب آخر.
ويكفي أنْ نعرف أنّ حجم مبيعات كبريات شركات الأدوية العالمية تجاوز 600 مليار دولار في العام 2006، وهو ما يتجاوز الناتج القومي لربع دول العالم تقريبا. ويصل هذا الرقم إلى الناتج القومي الإجمالي لدول الخليج مجتمعة بما تنتجه من نفط وغاز ومنتجات بتروكيماوية والذي يقدر ب 700 مليار دولار.
هناك مجموعة كبيرة من الأدوية التي تتجاوز مبيعاتها السنوية المليار الدولار، فعلى سبيل المثال دواء الليبيتور Lipitor وهو دواء يستخدم لخفض الدهون في الدم وصلت مبيعاته في العام 2006 إلى 13 مليار دولار، وهو ما يفوق الناتج القومي لأكثر من 20 دولة مجتمعة من دول العالم النامي.
من هنا تبرز أهمية الجانب الأخلاقي والإنساني الذي يجب أنْ تركز عليه منظمة الصحة العالمية والمنظمات الدولية الأخرى في مقاربتها لحل هذه المعضلة، والذي ينبغي أنْ يغطي الجوانب الاتية:
* أهمية التركيز في البحث والابتكار على توفير أدوية للأمراض التي تفتك بالدول النامية، وعدم إهمالها من قبل الدول المتقدّمة والشركات والهيئات المهتمة بالبحث العلمي والابتكار بحجة عدم جدواها الاقتصادية، وهي هنا تحديدا تركز على النمط الثالث من الأمراض.
* دعم وتشجيع وتسهيل عملية نقل التكنولوجيا وآليات البحث العلمي والابتكار للدول النامية؛ لتقوم بنفسها بالبحث عن علاجات وأدوية للأمراض التي تصيبها أو الاستفادة من ما هو قائم حاليا، وعدم تقييدها بمقررات التجارة الدولية التي تنظم الملكية الفكرية بالحد الذي يمنع الدول النامية والفقيرة من الاستفادة في هذا المجال.
* مع أنّ أمراض النمط الأوّل تصيب جميع الدول سواء أكانت فقيرة أم غنية، فمن المهم أنْ تتوافر العلاجات والأدوية لها بأسعار معقولة، لا تكون عائقا أمام عدم تمكن الدول النامية وخصوصا الفقيرة منها من الحصول عليها.
* مدير إدارة الصيدلة ورقابة الأدوية - وزارة الصحة.
العدد 1983 - السبت 09 فبراير 2008م الموافق 01 صفر 1429هـ