قناص فوق الشجرة يصطاد العصافير إلا ما وافقت هواه، وعلى كل العصافير أن تنحر بصمت. ليس مسموحا لها أن تتكلم. هذه هي مشكلة كل الغابات، حين تسود «الأنا» يتغير مجرى المخلوقات، ليتحول المجتمع العامر بالتنوع إلى غابة؛ لأن فيها قناصا أو قطا سمينا لا يفسح حيزا لسواه.
لا القناص المغرور ينزل من برجه العاجي، بل أصبح القناص يقرن بالشجرة، وأضحت الغابة كلها من حيازة القناص المستأثر. القط السمين يقرب كل القطط السمان. لا ينظر برأفة إلى العصافير المنتثرة في الشتات، ويراد للكل أن يقبل بهذا المنطق، عسى الزمن الجاحف أن يصيّره قَدَرا على الجميع.
وسط هذا الحيف الذي يملأ صداه السماء، أضحت الذاتيات هي المقدمة على أي شي، على كل شيء. لا مجال للعقل أن يتكلم، ولا للحكمة أن تنطق؛ لأن كل قط من القطط يتخذ من جماعته درعا واقيا من صوت المنطق. لا أحد من القطط السمان يخالف من مكنّه من رقاب العصافير. وأمست الثعالب تنصر قطها السمين ظالما أو مظلوما.
كل قناص في أذنيه وقر يحج عنه صدى الحقيقة، وكل قط يتشبث بمن يرعاه ولو كان على حساب مستقبل كل العصافير؛ لأن حسابات المجموع أقل شأنا في نظر هذا القط من حسابه الخاص، ولتضرب حسابات المجموع عرض الحائط إذا تعارضت مع صيد يسيل لعابه عليه رغم أنف كل العصافير.
حين تطغى الآنايات ويحكم مجتمع الغابة، وفي ظلاله ترفل القطط السمينة بالأمن والأمان، حتى لو حُرِمت العصافير من قوتها ومن حقها ويزداد القط الطائش على الجماعة بطشا، ومستعد هذا القط لأن يستعين بذئب يشاطره افتراس حق العصافير، وفي ظل مجتمع التمييز، فلا كلمة لكل الوجودات، ولا قيمة لحقوق الجماعة؛ لأن القانون الذي يضبط سلوك القطط غائب أو مُغيَّب، أو جُيِّر من أجل أن يكون خادما مطيعا للقط السمين وأقرانه.
«الأنا» باتت تنهش لحم من سواها كافة؛ لأنها لا تسمح بأن يبصر غيرها حلاوة الوجود، وستظل “الأنات” المستفردة تتحكم في كل شي، وحين تنتعش «الأنا» في كل موقع من المواقع، فعلى العصافير الأخرى أن تختار بين شيئين لا ثالث لهما: القبول بـ «الأنا» المستفردة ومد وصال الزلفى لها، وتسبيحها ليلا ونهارا، في الغدو والآصال، وإذا لم يعجبها هذا الخيار المر تراها مجبرة على أن تصمت، أو تجرَّد من ريشها!
في مجتمع الغابة ليس من حق القطط والعصافير أن تعيش معا، أو يحكمها قانون واحد؛ لأن القطط - وفقا لهذا المنطق - أسمى من كل العصافير الجائعة. وبالتالي، عليها أن تثبت في كل ذات صباح ومساء أنها بكر وإلا فهي مطعون في شرفها دائما، وعليها أن تكفّر عن جرمها لا أن تغسل يدها من القطط المزدادة سمنا من قوت العصافير.
في هذه المعادلة، يستكثر على العصفور أن يطلب حقه في العدالة، وعليه أن يكون شاهدا أطرشَ في زفةٍ لا ناقة له فيها ولا جمل. فحضوره يساوي غيابه. إن حضر الزفة الخديج فهذا من فضل القط، وإن لم يحضر فالزفة قائمة من دونه، لينظر بحسرة إلى زفة زائفة دفعت العصافير نحورها مهرا لها، وحين تحققت الرؤيا لا مكان للعصافير الجائعة فيها؛ لأن القطط الجشعة لا تقبل من يجاريها. إنها مهزلة كل من رفض تحقيق التمييز. إنها مأساة عصافير مكسورة الجناح!
إقرأ أيضا لـ "حيدر محمد"العدد 1983 - السبت 09 فبراير 2008م الموافق 01 صفر 1429هـ