العدد 1983 - السبت 09 فبراير 2008م الموافق 01 صفر 1429هـ

الحاكم بين العامّة والخاصة

عباس هاشم Abbas.Hashim [at] alwasatnews.com

استمعت لراديو هيئة الإذاعة البريطانية BBC بتاريخ 5-2-2008، كان البرنامج عن جمهورية «تشاد» والنزاع المسلّح الذي يطحن هذا البلد الإفريقي. الأغرب أنّ مصائب هذا البلد تعاظمت منذ العام 2003 عندما أُكتشف البترول. الحاكم إدريس ديبي قاد ثورة أطاحت بالرئيس السابق حسين هبري، وجاءت به إلى الحكم. رفع الرئيس شعار المساواة، فقد كانت القبائل دائما ما تشكو من تحيّز الرئيس لقبيلته، ووزع المناصب الحكومية بالعدل بين القبائل، وأرضى الجميع بالدستور الذي طرحه. ترشح مرتان ففاز، ولأنّ الدستور يمنع من الترشّح للمرة الثالثة على التوالي، عدّل الدستور وترشّح سنة 2005 وفاز أيضا.

كانت البداية مع الذهب الأسود سنة 2003 إذ بلغت الكميات المستخرجة 100 ألف برميل يوميا، وارتفع الإنتاج حتى أصبح حاليا نصف مليون بميل يوميا. ومنذ الكشف عن البترول بدأ الرجل - بحسب أحد المحللين في برنامج الـ BBC - آنف الذكر - يحيط نفسه بالمقربين من قبيلته، وبدأ عصر الاستبداد بالثروة والحكم كما يتهمه معارضوه. طبيعي يحتاج من أجل كسب ودّ بني عمومته أنْ يقرّبهم بتمييزهم عن الآخرين، فتزايدت شكاوى القبائل من ظلم توزيع الثروة النفطية، واشتدّ النزاع، فالتئم شمل المعارضة في محاربة الحكومة.

المشكلة في التمييز، أنّ رضا الخاصة (المتقربين للحكم) صعب المنال، فكلّ واحد لا يرضى إلاّ بالتفوق على الآخرين قربا وحظوة في الثروة، لهذا مهما تكن الثروة طائلة، فإنّ النزاع لابدّ أنْ يحصل بين الدائرة المقرّبة من الرئيس لتحاسدهم وتنافسهم على الصعود للقمّة، والقمّة لا تستحمل عددا كبيرا، ولهذا تدافعوا إليها، فتساقط بعضهم إلى السفح حيث المعارضة التي مازالت تضيّق الخناق على الموجودينَ في القمّة. بمعنى آخر، أنّ جزءا من أبناء عمومته لم يقبلوا بالنصيب الذي حازوه من الثروة، فانضموا للمعارضة، وهذه الحقيقة المرّة التي طالما يصطدم بها الحاكم الذي يعمل على كسب فئة من الشعب بتمييزهم عن سواهم في المناصب والثروة، وهي الحقيقة التي نطق بها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام حين رفض التمييز في العطاء والمناصب كما أشار عليه بعضهم من أجل كسب كبار القوم، ورفض إقرارهم على ما اكتسبوه بغير وجه حق: وقال «والله لو وجدته قد تُزوِّج به النساء ومُلِك به الإماء لرددته» وأردف معللا قراره هذا بقوله: «فإنّ في العدل سعة، ومَنْ ضاق عليه العدلُ فالجورُعليه أضيق»؛ أي أنّ مَنْ عجز عن تدبير أمره بالعدل فهو عن تدبيره بالجور أشد عجزا، فإنّ الجور يقود إلى التمرد والثورة، وفي نهاية المطاف، فإنّ أوّل من يخذل هم الخاصة ممن نصروا وتقرّبوا لأجل ان تكنز جيوبهم بالمال.

العدل يغيض فئة قليلة تحب التميّز عن الآخرين، ولكن الحاكم العادل ينال نصرة من قبل عامّة الناس، فيطمئن في حكمه لحمياتهم وذودهم عنه، فذلك أوفر له وأريح من قمع التحركات المطالبة بالحقوق بمختلف الوسائل كسن القوانين الظالمة وصرف المبالغ الطائلة على أجهزة المخابرات والأمن واستجلاب المرتزقة. ولنتأمل الفقرات التالية من كتاب أرسله الإمام (ع) لمالك الأشتر، يوضّح له قيمة عامّة الناس وقيمة الحاشية والبطانة الذين لا تخلو في الغالب من الفساد وحب الاستئثار، من الذين يحيطون بالحاكم والذين أطلق عليهم (الخاصة)، يقول: «وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق وأعمّها في العدل وأجمعها لرضا الرعية؛ أي أدعاها لرضا المجتمع، فإنّ سخط العامّة يجحف برضا الخاصة؛ أي أنّ رضا الخاصة لا ينفع إذا غضب العامّة وثاروا، وإنّ سخط الخاصة يغتفر مع رضا العامة»، ثم يكمل واصفا الخواص الذين يحيطون بالحاكم وكيف أنهم لا صبرَ لهم في الملمات فيقول: «وليس أحدٌ من الرعية أثقل على الوالي مئونة في الرخاء وأقل معونة له في البلاء وأكره للإنصاف وأسأل بالإلحاح وأقل شكرا عند العطاء وأبطأ عذرا عند المنع وأضعف صبرا عند ملمات الدهر من أهل الخاصة»، وبعد أن يؤكد على مرض أهل الخاصة الذين لا يرضيهم سوى التميّز والاستئثار، يؤكّد على أن الاطمئنان يتحصّل بكسب رضا العامّة الذين يرضون بالعدل والإنصاف، ويعلل ذلك بقوله: «وإنما عمود الدين وجِماع المسلمين والعدّة للأعداء، (هم) العامّة من الأمّة فليكن صفوك لهم وميلك معهم».

الذي يجدر ذكره وبقوّة، أن ما سبق مفيد للحكومة التي تريد أنْ تحكم بالعدل، أمّا الحكومة التي أدمت الاستبداد بالحكم والقرار والثروة، فحتما لا تستغني عن سياسة التمييز، حيث يتمزّق المجتمع بين مُناهض ومُعارض لها لتضرره من سياسة التمييز وبين مناصر مُتشدد في دعم سياساتها؛ لأنه المستفيد من تلك السياسة.

إقرأ أيضا لـ "عباس هاشم"

العدد 1983 - السبت 09 فبراير 2008م الموافق 01 صفر 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً