غادر أمين عام جامعة الدول العربية عمرو موسى بيروت بعد أن فشل في اقناع أقطاب «8 آذار» في القبول بالصيغة التي توصل إليها مجلس وزراء الخارجية العرب لحل أزمة الرئاسة اللبنانية. وفشل موسى في مهمته لا يعني أنه أوقف المبادرة العربية. فهو وعد أهالي لبنان بالعودة وأكد لهم أن الدول العربية لن تتخلى عنهم.
الموقف العربي من لبنان يشكل الملاذ الأخير للحل. ولهذا الأمر تجمع القوى السياسية الفاعلة على الأرض والمدركة لمخاطر الانزلاق نحو الفتنة الأهلية على ضرورة التمسك بمشروع الحل العربي لكونه يشكل الضمانة لمنع الانهيار وتفكك الكيان إلى دويلات طوائف وأمراء حرب ومذاهب.
هذه الثقة اللبنانية بالمبادرة العربية أعطت المزيد من الزخم السياسي لدور جامعة الدول وأخذت تكشف الأوراق السرية التي تلعب بالنار من وراء الستار. ومثل هذه الثقة ضرورية لتقوية الموقف العربي وهي توازي في أهميتها الدور العربي في تصليب الموقف اللبناني. وهذه التداخل المتوازي بين العربي واللبناني واللبناني والعربي يشكل قاعدة صلبة تعطل إمكانات نجاح المشروع الأميركي الهادف إلى استكمال تقويض الدولة والكيان وبعثرة الصيغة إلى نموذج يحاكي ذاك الذي تأسس في الساحة العراقية.
لبنان الآن يشكل نقطة ضعف ولكنه أيضا يمثل نقطة قوة للمشروع العربي في حال استمر التداخل بين الموقعين. فانهيار لبنان (الضعيف والمشلول أصلا) يعطي إشارة الضوء للمشروع الأميركي الذي توقف في منتصف الطريق بعد العدوان في صيف 2006. وصمود لبنان وتقوية عناصر ممانعته يعطي إشارة مضادة لتلك السياسة التقويضية التي تصر إدارة واشنطن على تعميم نموذجها من البصرة إلى غزة.
صلابة الموقف اللبناني حاجة عربية. وتماسك الموقف العربي على قاعدة المبادرة يؤسس عناصر قوة تعطي حيوية للصمود اللبناني. وهذا الأمر أدركه أمين عام جامعة الدول العربية حين أكد قبل مغادرته بيروت أنه سيعود إليها في 24 فبراير/ شباط الجاري، مشيرا إلى أن اللعبة بدأت تنكشف وأن الدول العربية لن تتخلى عن لبنان.
خيوط اللعبة أخذت تتضح معالمها، ويرجح أن تتبلور أكثر قبل اقتراب الموعد الجديد الذي اقترحه رئيس مجلس النواب نبيه بري لانتخاب رئيس الجمهورية. فالموعد تحدد في 26 فبراير ومن الآن إلى اقتراب ذاك الاستحقاق يفترض أن تكون تبلورت بعض عناصر اللعبة. وأهم تلك العوامل توضيح الموقف الأميركي من المبادرة العربية.
الغموض الأميركي
حتى الآن لم تحدد إدارة واشنطن موقفها الواضح من مشروع الحل العربي لأزمة الرئاسة اللبنانية. فكل التعليقات والتصريحات كانت عامة وغامضة وأقرب إلى المجهول من المعلوم. وهذا النوع من الكلام المبهم يؤشر إلى وجود موقف أميركي مضاد للمشروع العربي الذي توافقت عليه الدول العربية في القاهرة. وغموض السياسة الأميركية من المبادرة العربية يشبه كثيرا ذاك الغموض الذي ترافق مع إطلاق فرنسا مبادرتها لحل الأزمة اللبنانية. آنذاك تركت واشنطن المسألة موقوفة ولم تحدد موقفها بوضوح حتى أن الرئيس جورج بوش أعلن أنه لا يعرف عنها الشيء الكثير وأنه لم يتفق عليها مع الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي. كلام بوش الذي ورد آنذاك في مؤتمر صحافي أوضح الغموض وكشف عن عدم ترحيب واشنطن بالمبادرة الفرنسية أو على الأقل عدم تشجيعها ومساعدتها على النجاح. وأدى الالتباس الأميركي إلى إفشال المبادرة الفرنسية الأمر الذي دفع باريس إلى تحميل دمشق مسئولية الإحباط.
فرنسا لم تذهب بعيدا في مبادرتها الخاصة ولكنها ترددت في تحديد العناصر الإقليمية والمحلية التي ساهمت في إحباط مبادرتها. كذلك دمشق لم توضح أسباب الفشل ولكن وزير خارجيتها وليد المعلم اتهم واشنطن بأنها هي الطرف الذي يتحمل مسئولية إفشال المبادرة الفرنسية. الاتهامات المتبادلة أشارت إلى وجود نوع من التقاطع الأميركي - السوري في تعطيل إمكانات نجاح مبادرة ساركوزي. والتقاطع لا يعني بالضرورة احتمال وجود تطابق في الحسابات والقراءات ولكنه على الأقل يعطي فكرة عن وجود حساسية أميركية من احتمال عودة فرنسا لتلعب دورها السياسي المعهود في منطقة نفوذ تعتبر فرنسية تقليديا. وعودة فرنسا من البوابة اللبنانية تشكل نقطة ضغط تنافس المشروع الأميركي في منطقة «الشرق الأوسط» وتحديدا في سورية ولبنان وفلسطين.
إحباط المبادرة الفرنسية على قاعدة التقاطع الأميركي - السوري في لبنان يعطي فكرة عن احتمال تكرار ذاك التقاطع دوره في تعطيل المبادرة العربية. والمقاربة النسبية بين الاحتمالين ترسم خريطة طريق يمكن متابعة تفصيلاتها من الآن إلى جلسة الانتخاب المقبلة في 26 فبراير الجاري.
المسألة إذا معقدة وما هو ظاهر في الصورة لا يعني أنه الشكل الأخير لأن ما هو غير معروف أقوى بكثير من المعلوم. والكلام الذي يقال عن وجود صراع عربي - عربي وأن المشكلة اللبنانية هي عربية - عربية يحتاج إلى تدقيق لأنه يشبه كثيرا ذاك الكلام الذي يقال الآن عن غزة وتصوير الصراع في القطاع بأنه مشكلة فلسطينية - مصرية بينما الواقع يشير إلى أن المأساة تتحمل مسئوليتها حكومات «إسرائيل».
تدوير زوايا الصورة وتعديل المشاهد السياسية وتزويرها مسألة تستهدف خداع الناس وتغطية الطرف المسئول عن إحباط المبادرة الفرنسية ومحاولة إفشال مشروع الحل العربي في لبنان. والكلام عن خلافات عربية - عربية من دون توضيح عناصر تلك الخلافات وأسبابها يستهدف تضليل الناس وإخفاء خيوط اللعبة واحتمال وجود تقاطعات تتوافق مصلحيا على إخراج فرنسا من المعادلة اللبنانية وطرد الدور العربي من الساحة بغية الاستفراد بهذا البلد الصغير وتقطيع أوصاله وفق ذاك النموذج الأميركي الذي نجح الاحتلال في تأسيسه في بلاد الرافدين.
الحل العربي حاجة لبنانية وفي الآن يشكل ضرورة عربية مهما كانت الصعوبات التي ستواجهه في الأمد المنظور. فالتخلي العربي عن لبنان يعطي فرصة لتلك التقاطعات أن تعاود تنشيط دورها تحت سقف يعيد إنتاج تسوية ستكون في النهاية على حساب الكيان وما يعنيه من خصوصية ثقافية في محيط تعصف به آيديولوجيات لا تعترف بالآخر ولا تحترم الإنسان وحقوقه ولا تقيم وزنا للعدل والعدالة.
عمرو موسى سيعود إلى بيروت لمواصلة اتصالاته مع الفرقاء لتسهيل عبور الحل العربي وإنجاح المبادرة التي حددت خطواتها بثلاث فقرات. إلا أن المطلوب قبل عودة موسى إلى بلاد الأرز استنطاق إدارة بوش واستيضاح موقفها من المبادرة العربية. فالغموض الأميركي بشأن الحل العربي يثير الكثير من الأسئلة ويضع مهمة أمين عام جامعة الدول في دائرة لا تعرف مخارجها من مداخلها. وهذا الأمر يتطلب فعلا معرفة الأجوبة الأميركية حتى تتضح معالم الصورة وتحديد الجهات التي تقف وراء إفشال المبادرات.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1983 - السبت 09 فبراير 2008م الموافق 01 صفر 1429هـ