من خلال لقاء لي مع بعض الزملاء الأفاضل والأصدقاء الأعزاء عبروا خلاله عن شديد ضيقهم وانزعاجهم مما آلت إليه الأوضاع بين الكثير من الكتاب الصحافيين من توتر وشخصنة وخروج عن سياقات النقد الموضوعي البناء إلى استهداف الزملاء أو «الزملاء الآخرين» في شخصهم ولباسهم ومظاهرهم.
وارتأوا أثناء اللقاء طرح مبادرة للقاء والتواصل ومد الجسور وتجسير الفجوات والهوات بين الكتاب الصحافيين من مختلف القنوات الصحافية في البلاد على أمل التخفيف من سوءات الحالة الصحافية غير الصحية في وقتنا الراهن، وعلى أمل المساعدة في تخفيف أشكال الاحتقان الحاصلة التي تضر بالوسط الصحافي ككل وإن كانت هي أشكال طبيعية ومتوقعة جدا!
وإن كنت أتفق مع انطلاق مبادرة إيجابية كهذه ذات نية طيبة من قبل زملائنا الأفاضل والأصدقاء الأعزاء إلا أنني كنت قد عبرت لهم عن عدم قناعتي وتفاؤلي بنجاح هذه المبادرة المثالية التي لا يخفى عليها انعدام الشروط الأساسية المهيئة والمبيئة للتواصل والتقارب والالتقاء بين الكثير من الكتاب الصحافيين، والتي لربما من بينها عدم وجود الاحترام والاعتراف بحق الطرف الآخر المختلف معهم في إبداء رأيه، بل بالأحرى هنالك من الصحافيين من لا يقيم للواقع ولذكاء القراء أدنى اعتبار واحترام، ومن هو أقرب إلى أن يكون مخبرا أو «قروضا» حقيرا من كونه صحافيا، ومن هو من الممكن أن يكون من عشاق الشهادة الطائفية، وعن من تجبر في طفيليته إلى درجة تظن أنه هو الضحية في هذا التطفل المصلحي لا الجاني، ومن هو على استعداد أن يفتت الوطن كهشيم يابس إذا ما مست سقف رشوته العامة أدنى غمزة أخوية!
وبلفظ وتصنيف أكثر عموما واختزالا فإن المشهد الصحافي البغيض يرتسم أمامنا بصنفين من كتاب الصحافة قد لا يكاد لهما للأسف أن يلتقيا أو يتصالحا فطرة، وبغض النظر عن ترسخ الأحقاد وتعفن الهواجس والشكوك لدى الكثير من الأطراف الصحافية بين بعضها بعضا، فإنه يمكننا القول ان هنالك في الجهة اليمنى كتاب المواطنة الذين مهما اختلفت معهم أو اتفقت فإنك لن تجدهم إلا مهمومين بمساعي وسبل النصرة والإحقاق والتفعيل لمبادئ المواطنة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في البلاد، وكيف يسعون إلى تبني الطرح الوطني العام لمختلف الملفات والقضايا المصيرية على أمل المساهمة في التوحيد والرص الاجتماعي الوطني وبهدف تنوير القراء لا تضليلهم و»تيئيسهم»!
في حين أنك وعلى الجهة المضادة ستجد كتاب الزبائنية السياسية أو بالأحرى زبانية الزبائنية السياسية في الصحافة ممن يتجلى وينفر كل همهم في تطويل شعار «لكل خدمة ثمن مهما طال الزمن» والعزف على وتر المنة والتمنن والتعطف والاستمنان إلى درجة أصبح فيها المواطن الحر الأبي بحاجة إلى مشروع «التأمين ضد التعطف» إلى جانب مشروع «التأمين ضد التعطل»!
ولو اطلعت على مجمل مقالات وحلقات وسلاسل وحبال هذا النفر من الصحافة لوجدته يتعلق بالخدمات العامة وسائر أنواع الخدمات والخدمات والخدمات التي من المفترض أن تطرح حقوقا، فقد تحسبهم لأول وهلة رموزا للتضحية والعطاء تستحق الاحتفاء رغم كونهم سلالم وحبالا للوساطة الوظيفية، ولكنك لو أمعنت النظر والسبر الناقد جيدا في خطاب هؤلاء النفر وسياقهم الخاص لوجدتهم يستخدمون قفازات الخدمات العامة والمخوصصة لتخريب وتلويث القضايا الجامعة والملفات الوطنية الكبرى، وبغرض فاقع لإشغال وتلهية من قد يقع في كيدهم من المواطنين المحتاجين بالنتائج دون الأسباب وبالأفعال دون المنطلقات المبدئية، وربما الدستور في أعرافهم الانتهازية لا يعدو أن يكون منة ومجاملة كبرى، ومثلهم مع الفقراء المعدمين والمواطنين كمثل من يزين للمعتل علته وللأعمى عماه وللمصاب مصائبه ليس لغرض سوى الكف عن المطالبة بالحقوق الشرعية والاستعاضة عنها بآيات الابتهال والتملق والشكر للمنة غير الممنونة في ما هو أسوأ من حال الزبائنية السياسية ذاتها.
بل أن صنفا من بين أصناف كتاب الزبائنية السياسية ذاتهم لا يتورع في مختلف المناسبات عن التحريض على الضرب والتنكيل بأفراد الشعب حين الملمات في ما يفوق مهمة الجهات الرسمية الكفيلة بالضبط والردع، والتي لا تخفي سأمها وتقززها من مزايداته الفارغة عليها واتهامه لها بالتقصير والرحمة والتعاطف في سابقات عدة لا يمكن حصرها، كما أن هذا التحريض يشتغل ضد الصحافة والصحافيين ويعمل على تخوينهم ولا يتورع عن أن يحشو بنيانه اللغوي والصحافي الركيك بمختلف البذاءات والألفاظ السوقية الخادشة للحياء ضد كل من يختلف معه أو بالأحرى ضد من يختلف مع كفيله عند المنصة الكبرى أو سدرة المنتهى للمطالبات الوطنية ما قد يوحي ويشير إلى سلبيات نظام الكفالة الصحافية وبشاعاتها التي فاقت الوصف.
وفي ظل ما نعانيه في البلد من أزمة اختلاط في المسميات والمناصب والاختصاصات الوظيفية نجد هذا الصنف من الكتاب المتطفلين سياسيا قد فاق كفيله حجما ووزنا وحظوة وامتيازا فإذا به أقرب إلى أن يكون من صنف «صحافيين بدرجة رئيس وزراء»، ممن لا يترددوا في كل مناسبة عن استغلال امتيازاتهم وتحصيل أثمان خدماتهم السياسية المرهقة والوازنة خلف الكواليس وعلى صدور التقارير، وفي تخصيص أعمدتهم الصحافية النافقة مهنيا وموضوعيا في إطلاق توجيهاتهم «الصائبة» و»السديدة» بشكل فوقي ومباشر إلى الوزراء وأعضاء السلطة التشريعية، وحضهم بشكل أبوي واستعلائي على تنفيذ واجباتهم ووظائفهم فردا فردا لكأنما هم تلاميذ في حضرة المعلم، ومثل هذا الصنف لا يبخل أيضا عن توجيه نصائحه ودروسه للشعب ليتعلم منه المحبة والولاء والأخلاق العالية والمواطنة الحقة!
وإن كنا لا ننكر أن مجرد وجود هذا الصنف من الكتاب على وجه التحديد ضمن سلالة كتاب أو زبانية الزبائنية السياسية إنما يشير إلى خلل ونقص فادح في الترابط والانسجام بين المجتمع والدولة، كما يشير إلى وجود ثغرات كبرى في تطبيق القوانين والأنظمة المؤسسية وإخفاق في تحقيق مؤسسات الدولة الخدمات العامة ما يدفع جمهورا من القراء إلى الانصراف إلى وساطة هذا الكاتب المستكتب وامتيازاته الدودية الطفيلية دون أن يعلموا أن لكل خدمة ثمن.
ولكننا مع ذلك لا ننكر لهم مبادرتهم الوردية لتوزيع الورود، فهم قد ذكرونا بذلك بأغنية المطرب الكبير الراحل محمد عبدالوهاب «يا ورد مين يشتريك وللحبيب يهديك» ولكن شتان حينها بين عبدالوهاب وهو يغني «يا ورد ليه الخجل فيك يحلو الغزل» وبين صاحبنا ولسان حاله وحال مبادرته يقول «يا ورد ليه الخجل فيك يحلو الدجل»!
فهل سيوزع صاحبنا على الصحافيين الورد المشترى كما وزعه من قبل أم أنه لن يحيد عن اعتبار الصحافة بيت الداء والسلطة هي الدواء، وإن ترزق وتسلق على ظهر الصحافة حتى شبع وأصبح أقرب إلى أن يكون من ضمن «الصحافيين بدرجة رئيس وزراء»، ويا سبحان الله!
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 1982 - الجمعة 08 فبراير 2008م الموافق 30 محرم 1429هـ