العدد 1981 - الخميس 07 فبراير 2008م الموافق 29 محرم 1429هـ

«الغاط» تميط اللثام عن أسرار جبل طويق

قصتي مع الغاط لا تختلف عن قصتي أنا وغيري مع الكثير من المدن والبلدات في هذا الوطن الشاسع. مضت سنوات والغاط لم تكن بالنسبة لي إلا مجرد لوحة أراها حينما أمر مسرعا على طريق الرياض - القصيم. لم أكن أتصور أن الغاط، هذه المدينة الهادئة الوادعة، التي تعلو محياها الجميل ابتسامات البراءة والعفوية تمتلك أسرارا عميقة الغور لا تبوح بها إلا لمن يتودد لها ويمضي على بابها ما يكفي من الوقت يخطب ودها ويطلب وصلها.

إذا كانت مصر هبة النيل، كما في القول المأثور، فإن مدينة الغاط هي هبة وادي الغاط. هذا الوادي حدد موقع المدينة القديمة وحدد سماتها الديموغرافية وتخطيطها العمراني. تقع الغاط القديمة في عرض جبل طويق فويق سفحه المنبسط إذ يجري وادي الغاط. هذا الموقع أتاح للأهالي الاستفادة من مياه الوادي وفي الوقت نفسه وفر لهم الحماية في كنف الجبل. لذلك جاءت المدينة على شكل ميول متدرج من عرض الجبل العلوي حتى سفحه السفلي.

وحينما أخذني محمد بن ناصر السديري في جولة على المدينة القديمة كان الطريق المعبد الحديث يقسمها إلى شطرين، شطر إلى اليمين متسافل وشطر إلى اليسار متصاعد. بينما كان

محمد يقود السيارة على هذا الطريق المعبد ويحدثني عن المدينة تذكرت مدينة Les Eyzies المطلة على وادي الدردون في فرنسا التي يسميها الأثريون حاضرة العالم لما قبل التاريخ، ويسميها عالم الآثار الأميركي كارلتون كون «كعبة الأركيولوجيين» لكثرة ما يرتادها علماء الآثار وينقبون فيها بحثا عن بقايا إنسان ما قبل التاريخ. استطاع وادي الغاط عبر الأزمنة السحيقة أن يحفر مجرى عميقا تحف به جروف صخرية شديدة الانحدار شاهقة الارتفاع يصل ارتفاع البعض منها إلى نحو 200 قدم.

وتتكون هذه الصخور من الحجر الهش الذي يمتص الماء في مسامه ويتشربه كالإسفنج ويتفاعل معه، لذا تحولت المنطقة إلى شبكة من المغارات والكهوف التي وجد فيها الإنسان القديم ملاجئ طبيعية يؤوي إليها إذ لا يزال يشاهد الزائر داخل هذه الكهوف مخلفات وآثار الإنسان القديم الذي استغل هذه الكهوف وهيأها للسكنى. تشعر وأنت تتجول في هذه الكهوف وكأنك تعود القهقرى في عصور التاريخ الموغلة في القدم إذ تقبع. حواليك في كل مكان مساكن الإنسان القديم وقد أطبق عليها الصمت. ومما شجع الإنسان القديم على سكنى هذه الكهوف ما يتوافر حولها من مصادر مائية على شكل شعاب وقلات لا ينضب ماؤها.

وإذا توغلت في جوف جبل طويق وردهاته المنخفضة والمحصورة بين جنباته وجدتها حدائق غناء تنسيك أنك في وسط الصحراء. جبل طويق، هذا الجبل الذي يتراءى لك من بُعد جبلا أصم أجرد أغبر يذكرني بالمرأة الملتفة بعباءتها التي تبدو لك كتلة سوداء لكنك حينما تكشف عنها تجدها في غاية الحسن والجمال.

رحلتي إلى الغاط بينت لي إلى أي مدى حرمنا ركوب السيارات من متعة النظر المتبصر ومن التفكر والتدبر. فلو نزلت من السيارة ومشيت على قدميك ومارست هواية البحث والاستكشاف لتبين لك أن جبل طويق ليس مجرد تكوين تضاريسي. إنه مهد حضارات ومعقل أمم وشعوب تركت آثارها شاخصة على جنباته وفي وهاده تنتظر من يستكشفها ويستنطقها لتبوح له بأسرارها الدفينة وقصصها العجيبة.

يقع بالقرب من مدينة الغاط العديد من المعالم والمواقع الأثرية من أهمها «مغيران» و«الصبيخة». ومن المعالم الجغرافية خشم الشاش جنوبا وخشم العرنية إلى الشمال، وهو الذي خلده حميدان الشويعر في قصيدته المشهورة التي أثنى فيها، وهو الذي عادة ما يشح بالثناء، على أمير الغاط في زمنه سليمان السديري، ومعلوم أن عائلة السداري سكنوا الغاط وتأمروا فيها من القرن الحادي عشر الهجري حتى وقتنا هذا. يقول حميدان الشويعر:

من قابل خشم العرنيّه

فالخاطر منقولٍ خْطِره

ومن قال أنا مثل سليمان

كِرْم السامع ياكل بْعَره

ولا تزال معالم وبقايا المنازل وبنايات الطين والدكاكين ماثلة في المدينة القديمة، بعضها لحسن الحظ، كتب عليه تاريخ إنشائه، منها مسجد تعود بنايته إلى نحو 400 سنة. وهناك أربع بنايات للإمارة متعاقبة التاريخ ومتلاصقة، وكأنها صفحات متعاقبة من تاريخ البلدة، أقدمها مبنى للإمارة أنشئ منذ عدة قرون، وآخرها مبنى الإمارة الذي كان ينزله الملك عبد العزيز أثناء زياراته للمنطقة. وفي المبنى الأوسط منها رأينا «الجصّة» وهي المخزن الذي تحفظ فيه التمور لإطعام ضيوف الإمارة، ولا يزال النوى متناثرا حواليها. ثم دخلنا مجلس الرجال «القْهَوة» إذ لا تزال تزينه نقوش الجص البديعة التي غطاها لون الدخان وقد نقش على أحد الجدران اسم البنّاء الذي أبدع هذه النقوش وهو من أهالي شقراء واسمه ناصر بن عودان وتاريخ البناء 1325هـ. كما لاحظنا على إحدى الدعامات الخشبية «الساكف (أي الساقف، بالفصحى)» لأحد المداخل نقشا محفورا يشبه تماما أحد النقوش المحفورة على إحدى جنبات جبل طويق الصخرية، والذي من المؤكد أنه يعود إلى عصور سحيقة، ربما إلى العصر الحجري. وبعد نقاش ومداولات مع محمد السديري بشأن هذا النقش الخشبي توصلنا إلى أنه ليس تقليدا واعيا ونقلا مباشرا للنقش الصخري وإنما هو يمثل امتدادا ثقافيا وفنيا لتراث المنطقة عبر عصور التاريخ، لأنه من غير المحتمل أن ناقش الخشب كان على علم بالنقش الحجري.

وبعد أن استتب الأمن والأمان وانتفت دواعي الاحتياطات الأمنية التي ألزمت السكان في عصور مضت اللجوء إلى سفوح جبل طويق للاحتماء به انتقلت مدينة الغاط الحديثة إلى سهل الحمادة الفسيح المنبسط إذ الماء الوفير والتربة الخصبة والمناخ المعتدل. ومنذ ذلك الحين تحولت مدينة الغاط إلى منطقة زراعية تنمو وتتطور بشكل مطرد، وخصوصا بعد أن انصرف الأهالي إلى الاستثمار في زراعة النخيل، التي من أشهرها أنواع الخضري. وقد أنشئ في المدينة العديد من المصانع الحديثة التي تقوم على معالجة المحاصيل الزراعية من ألبان وتمور وغيرها وتعليبها بغرض التصدير إلى مدن المملكة ودول الخليج. وبفضل ما تبذله الإمارة والبلدية من جهود في التخطيط والنظافة والإنارة والتطوير وبناء السدود تحولت المدينة في فترة زمنية قياسية إلى مدينة عصرية نموذجية يرتاح فيها الزائر والمقيم.

وأهل الغاط على علم تام بما تتمتع به بلدتهم من موقع جغرافي فريد وتضاريس متميزة وطبيعة خلابة وبما تحتضنه من معالم أثرية. لذا تعاونت الإمارة مع الشؤون البلدية لإقامة متنزهات على مدرجات جبل طويق المرتفعة والمطلة على المدينة يرتادها الأهالي للراحة والاستجمام. كما تحتضن المدينة «نادي الحمادة» وهو ناد رياضي فسيح بني على الطراز الأوروبي الحديث تقام فيه، إضافة إلى النشاطات الرياضية، الحفلات والمهرجانات في أيام الأعياد والمناسبات الوطنية.

وحسب التقارير الصادرة من الهيئة العليا للسياحة فإن مدينة الغاط تم تصنيفها واحدة من ضمن عشر مواقع سياحية تعتزم الهيئة الالتفات إليها وتطويرها كمناطق جذب سياحي. ونأمل ألا يطول الانتظار وأن تسارع الهيئة إلى تطوير المدينة وترميم معالمها السياحية وتهيئتها لاستقبال الزوار والسائحين. موقع الغاط على طريق شرياني من أهم الطرق السريعة في المملكة ويربط الرياض بمنطقتي القصيم والمدينة المنورة، إضافة إلى ما سبق ذكره عن تاريخها وجغرافيتها ومناخها، كل ذلك يؤهلها لأن تصبح واحدة من أهم مناطق الجذب السياحي في المملكة، كما شهد لها بذلك ويليام بالغريف في رحلته المشهورة إلى نجد وغيره من الرحالة الأجانب الذي زاروا البلدة وسحرتهم بجمالها الخلاب.

العدد 1981 - الخميس 07 فبراير 2008م الموافق 29 محرم 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً