قليلةٌ هي الموارد التي أغادر فيها الشأن الإقليمي والدولي لصالح شأن الداخل، وربما لم تتجاوز تلك الموارد أصابع اليد الواحدة يحمل كلٌ منها دفوعه الخاصة، وفي مورد اليوم لم أكن محتاجا لأكثر من أن أتحسّس معاناة أم يوسف لكي أمخر في حالها وحال أبنائها وأحوال أشباهها في المأساة. طبعا لن يعيبَ أحدٌ على المسئولين بشتّى مراتبهم من تنفيذيين وتشريعيين إن هم لم يسمعوا بهذا الاسم؛ لكن ذلك لن ينسحب على حالهم الآن تأكيدا وهم يقرأون (أو من يليهم) قضية هذه السيدة الفاضلة التي أنجبت عشرة بطون يُنسي اللاحق منها السابق منذ العام 1962، فهم تباعا ذوو نشأة سويّة، برز منهم يوسف كمهندس مُبدع في شركة عالمية للنفط، وتلاه أخوه حُسين كأكاديميٌ جَلِد، ومُسوّق نوعي وموهوب في مجال الأجهزة الكهربائية والالكترونية انتفعت بمهاراته كثير من الشركات المحلية والإقليمية، وتميّزت أخته بين أقرانها طالبة في الطب العضوي من نوع خاص بين أروقة الجامعات السعودية المرموقة، مضى الآن أكثر من أربعين عاما وهم يرتشفون من رحيق هذا الوطن، يُعينون في تنميته ويرقبون أحواله، ويُضمّدون جراحه، ويهشّون بأيديهم عن عينيه، ولم يُسمع عنهم ولا منهم ما يجعلهم غير أناس أسوياء، وهي نعوت لا أقيمها محاباة لهم، فهم ليسوا من أبناء الذوات لكي أقول فيهم ذلك تزلّفا، وإنما لأنهم أهْلٌ لذلك.
القضية من أَلِفِهَا إلى يائها أن أم يوسف (بحرينية الجنسية أبا عن جد منذ مئات السنين) قد تزوّجت من أحد أقاربها، وشاءت الأقدار أن يستوطن أجداده إحدى الدول الخليجية المجاورة ويحمل جنسيتها، وبما أن شرط أم يوسف الوحيد حين إجراء عقد الزوجية هو أن تبقى في بلدها البحرين، فقد لَزِمَت أرضها منذ زواجها وإلى الآن بمعيّة زوجها وأولادها (وأسَرِهِم لاحقا) وكانت نشأتهم وتعليمهم وعلاقاتهم وارتباطاتهم عليها، بل إنهم لم يكونوا قادرين على استيعاب أن لديهم مكانا آخر غيرها، وحتى عندما بدأوا في تحسّس التمايز تجاههم على أبواب جامعة البحرين وفي وظائف القطاع العام والخاص والتأمين الاجتماعي والحقوق المدنية الأخرى لم يكن يدور بِخَلَدِهِم أن هذه الأرض ترفضهم، بل إن تخريجاتهم دفعت بهم لأن يُحمّلوا من لم يمنح قضيتهم ما تستحق من المسئولية وليس شيئا آخر. وهنا يحقّ لي أن أتساءل: ألَمْ يسمع أحدٌ من المسئولين النداءات والمناشدات والالتماسات والطلبات وتحديث البيانات المتكررة لهذه العائلة؟ هل من المعقول أن يمضي الآن أكثر من أربعين عاما ومازال المسئولون يسْتَندرونهم دون مراعاة تُذكر للاستحقاقات النّسبيّة والتاريخية والوطنية؟ فإن كان الموضوع موضوع ولاء فلا يستطيع أحد أن يلعب على جراح الآخرين في ذلك، أو يتناجز معهم فيه، ومن يُصر على تكريس التمايز في الولاء فهو يسعى إلى تفتيت الثقة بين الحاكم والمحكوم تأكيدا على حساب سلامة الولاء للوطن. وإذا كان الموضوع يتصل بتزويد الجهات المعنية باللازم من أوراق ثبوتية أو مستندات، فلا أعتقد بأن أم يوسف وأبناءها قد تركوا وسيلة في ذلك من دون أن يطرقوها، بدءا من الطلبات الرسمية ومرورا بالصحف وانتهاء بالمجلس الأعلى للمرأة والإدارة العامة للجنسية والجوازات والإقامة.
وهنا وقبل أن أضع نقطة النهاية أودّ أن أشير وبصراحة إلى أن هزّة كتف في معالجة قضية إنسانية كهذه ومعها حالات كثيرة مشابهة لهو إيغال في الإهمال وفي مغالبة واقع قائم وحقيقي وتام وناجز وصريح، بل إن تمييعه بهذا الشكل هو انتهاك لحقوق الناس، ولا أظنّ أن الأمر يحتاج إلى أكثر من الاهتمام بهذه القضية وتسويتها بالشكل اللائق وإنهاء معاناة مثل هذه الأسر وتجنيب الأحفاد وراثة كابوس طلب حقهم المعطل.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 1980 - الأربعاء 06 فبراير 2008م الموافق 28 محرم 1429هـ