هل تغير انتخابات «الثلثاء الكبير» الحزبية في الولايات المتحدة قواعدَ اللعبة الأميركية وتكسر المألوف المتوارث في سياسة الاختيار؟ حتى الآن لم تصدر النتائج النهائية لانتخابات ذاك «اليوم الكبير»، ولكن العينات الأساسية أشارت إلى تقارب نسبي بين المترشحين الديمقراطيين (امرأة ورجل من أصول إفريقية) بينما تبدو معركة المترشحين الجمهوريين عادية؛ لأنها تجري تحت سقف العادات المتعارف عليها بين الجمهور الأميركي.
الجديد إذا في المشهد الانتخابي يقتصر على تلاوين تلك المعركة الحاصلة بين امرأة بيضاءَ ورجل أسودَ في ساحة الحزب الديمقراطي. في المقابل تبدو المعركة في ساحة الحزب الجمهوري عادية؛ لكونها تحصل بين رجال بيض أولهم ضابط في الجيش قاتل في حرب فيتنام (جون ماكين) ومرشح «تيار المحافظين الجدد» ميت رومني ومرشح التيار المسيحي المتدين مايك هاكابي. المترشحون الثلاثة من جانب الحزب الجمهوري يتنافسون تحت سقف المألوف الأميركي. فالأول أبيض مؤيد لسياسة جورج بوش الهجومية، والثاني أبيض يحظى بتأييد قوة ايديولوجية محافظة، والثالث أبيض وينال ذاك الدعم المطلوب انتخابيا لإظهار مكانة تيار المحافظين المسيحيين.
الثلاثة من صنف واحد في النهاية، والاختلاف بينهم محدود نسبيا والرابح منهم يعتبر من «أصحاب الدار» ولا يشكل لونه أو دينه أو أفكاره ذاك الاستفزاز الذي يقض مضاجع المؤسسات الأميركية التي استقرت على سياسة تحكّم «لون واحد» بالتلاوين التي يتألف منها المجتمع الأميركي.
هذه التقارب اللوني الديني الايديولوجي بين أقطاب التنافس في الحزب الجمهوري يعطي الفائز ببطاقة الترشح لمنصب الرئاسة ذاك الرصيد المتراكم من تجاربَ متوارثةٍ في تداول إدارات «البيت الأبيض». فالمترشح من جانب الجمهوري سيحظى بدرجات متفاوتة بتأييد ثلاث كتل تصويتية مهما كان اسمه وعنوانه. فهناك كتلة «التحالف المسيحي» التي يقدر عدد أصواتها بين 20 و30 مليون ناخب في مجموع الولايات، وهناك كتلة «المحافظين الجدد» التي تراجع أنصارها ولكنها لاتزال تتمتع بشعبية في أوساط مؤسسات القرار، وهناك كتلة «البيض» وهي الأكبر والأقوى؛ لأنها تتألف من ائتلاف تقليدي يتشكل من الانغلوساكسون البروتستانت.
الكتلة البيضاء التي يطلق عليها «واسب» تملك قوة تصويتية ترجيحية في تاريخ الانتخابات الأميركية؛ لأنها تعتبر نفسها الطرف المؤسس للدولة وهي التي استوردت النموذج من أوروبا وطورته في صيغة جديدة تتناسب مع ظروف الزمان والمكان. وشكلت هذه الكتلة على مدار الجولات الانتخابية القوة المهيمنة على إدارة الشارع لكونها تعتبر الفئة المختارة التي تملك أدوات تحريك الإعلام والمشاعر.
هذه الكتلة لاتزال تشكل حتى الآن ذاك «الممر الآمن» الذي يجب الاعتماد عليه لأخذ بطاقة الفوز في لعبة الانتخابات الرئاسية. وقوة الكتلة البيضاء (الأوروبية البروتستانتية) تأتي عادة من نفوذ معنوي (شرعية تقليدية) معززة بقوة مالية واقتصادية وايديولوجية ساهمت في القرون الخمسة في بناء دولة نموذجية خاصة بهم.
هذه القوة الخاصة يحتاج إليها أي مترشح طامح إلى الفوز بمقعد الرئاسة الأميركية. وكل من يخالفها أو يعارضها يلاقي صعوبات في إمكانات التوصل إلى تحقيق هدفه سواء كان المترشح من الحزب الجمهوري أو الديمقراطي. فالسؤال كان يتركز دائما على من يربح الكتلة البيضاء الانغلوساكسونية البروتستانتية (واسب) يربح الرئاسة ومن يخسرها يخسر المعركة؟ بوش الأب كسب عطفها فربح. كلينتون كسب تأييدها فربح المعركة. بوش الابن فعل الأمر نفسه في الدورة الأخيرة (سنة 2004) حين كسب تأييدها (إضافة إلى التحالف المسيحي وتيار المحافظين) ضد المترشح الكاثوليكي جون كيري.
نمط الاختيار
هذا السؤال محسوم في الجانب الجمهوري في معركة العام 2008. فالثلاثة من الصنف نفسه وإن اختلفت المعايير بينهم على مستوى الفرز الايديولوجي. المشكلة تكمن في الجانب الديمقراطي وخصوصا إذا نجح باراك أوباما في نيل بطاقة الترشح للرئاسة. فهذا الأمر يعني بداية انقلاب على نمط أميركي في اختيار المترشح للرئاسة. والنمط الأميركي العام يختلف عن النمط الحزبي في الاختيار. فالأول يتصل بجمهور عريض تتحكم في إرادته عاداتٌ وتقاليدُ تتطلب قوة خارقة لكسر نمطيتها المتوارثة والمتأصلة في ثقافة راسخة في اللاوعي الجمعي، بينما النمط الحزبي (الديمقراطي أو الجمهوري) يختلف في رؤيته؛ لأنه ينطلق من برامجَ وقواعدَ وشبكاتٍ من الأنصار والمريدين يتقاربون ايديولوجيا في أفكار خاصة ليست بالضرورة تشكل أرضية مشتركة لكل الجمهور الانتخابي الأميركي.
الجمهور الانتخابي يتألف تقليديا من خمس مجموعات كبرى، وهي: الواسب (الكتلة البيضاء)، اللاتين (الهاسبانيك) وتتشكل من الكاثوليك النازحين من أميركا الجنوبية أو دول أوروبا الجنوبية، الأفارقة السود، الأقليات (المسلمين، اليهود، الهندوس، الآسيويين، الإيرلنديين)، وأخيرا المجموعات المؤدلجة (حزب الخضر، جماعة البيئة، أنصار المرأة وحقوق الإنسان، الليبراليين، النقابات والمعارضين اليساريين للمؤسسات).
كل هذا التنوع يؤلف في مجموعه العام الكتلة التصويتية التي يجب أن يعتمد عليها المترشحون للفوز بمقعد الرئاسة. فالقوة الأولى (بيضاء أوروبية)، والثانية نصف بيضاء كاثوليكية، والثالثة سمراء إفريقية، والرابعة مختلطة من ألوان وديانات وأعراق تصنف تحت مسميات مختلفة، والخامسة ضعيفة تصويتيا ولكنها قوية في تأثيرها الإعلامي والأكاديمي (مثقفون وأصحاب رأي).
هذا الواقع التصويتي يعكس فسيفساء المجتمع الأميركي المركب من مجموعات ملونة وروافدَ عرقيةٍ ودينية متنوعة، ولكنها لاتزال حتى هذه الدورة خاضعة لغلبة بروتستانتية بيضاءَ. وطوال تاريخ الولايات المتحدة لم يستطع أحد خرق هذه المعادلة الراسخة سوى الرئيس الديمقراطي الكاثوليكي الأوروبي المنشأ جون كيندي، بينما كل الرؤساء من الحزبين كانوا من بعيد أو قريب من كتلة «الواسب».
الدورة الحالية إذا مفارقة في اختياراتها وتحديدا على مستوى الحزب الديمقراطي. والمعركة الجارية الآن بين المترشحة هلاري كلينتون (الواسب) والمترشح (الإفريقي الأسود) باراك أوباما تشكل نقطة غير مرصودة سابقا في تاريخ التنافس على هذا المقعد الحساس. وكائن من كان سيأخذ الأرجحية الحزبية فإن الحزب الديمقراطي في دورته الحالية كسر تلك الصورة النمطية عن أوصاف المترشح للرئاسة. فإذا نالت كلينتون البطاقة تكون المرأة الأولى التي تترشح على هذا المنصب الأول في الدولة الأميركية. وإذا نال أوباما البطاقة يكون الأسود الأول الذي يترشح لهذا الموقع الرئيسي في تقرير السياسة الأميركية.
المتنافسان الديمقراطيان على مقعد الرئاسة يلعبان معركة خارج المألوف الأميركي. المترشحون الجمهوريون الثلاثة يلعبون المعركة في دائرة تقليدية موروثة ومتعارف عليها. ولذلك فإن الترجيحات ستختلف حين تنتقل معركة الاختيار من دائرة قواعد الحزب وأنصاره إلى دائرة الجمهور الانتخابي الأميركي العريض من شرق الولايات إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها ووسطها. فالاقتراع الحزبي لا يعكس بالضرورة الهواجس والمخاوف العامة للجمهور العام. وبغض النظر عن اسم المترشح عن جانب الحزب الديمقراطي فإن الاختيار كسر المألوف وخرج على الصورة النمطية التي استقرت عليها تقليديا أوصاف رئيس الدولة. وهذا الأمر يتطلب فعلا المزيد من الجهود لكسب «الواسب» إلى امرأة بيضاءَ أو رجل أسودَ... وإلا ستكون المعركة صعبة وخصوصا إذا فشل الحزب الديمقراطي في تشكيل قوة انتخابية ائتلافية تجمع تحت مظلته تحالف اللاتين والأفارقة والأقليات والمجموعات المؤدلجة.
المعركة إذا ملونة وهي للمرة الأولى تأخذ هذا الطابع غير المألوف. وربما لهذه الاعتبارات اكتسب «الثلثاء الكبير» أهميته في معركة الاختيار التي ستعرف نتائجها النهائية اليوم.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1980 - الأربعاء 06 فبراير 2008م الموافق 28 محرم 1429هـ