مسكينة لاهور. مدينة راج الساطعة هذه هاجمها أخيرا مفجر انتحاري استهدف المحامين الذين كانوا يحتجّون على سَجن الرئيس برويز مشرف لكبار شخصيات النظام القضائي. بينما تناثرت أشلاء الجثث في الساحة التجارية المحاطة بالأشجار التي أصبحت «مدينة الليلة الرهيبة» والتي كتب عنها روديارد كيبلينغ «مدينة النهار الرهيبة». ما كان يمكن للعملية الرهيبة أن تقع في منطقة أكثر رمزية. فعلى مسافة قريبة في الشارع نفسه حيث تقع دار المحكمة العليا ذات المبنى الفكتوري يقف مدفع كيم، الذي بني في القرن الثامن عشر وسمّي «زمزمة» وذكره كيبلينغ في كتابة الشهير «كيم» موجّها فوهته نحو موقع التفجير.
وعلى رغم أن المدن التاريخية للهند، المنافسة لباكستان العظيمة، ترتفع على قائمة المدن المشهورة، لا يعبّر شيء عن بؤس باكستان الحالي مثل حالة لاهور، العاصمة المشتركة للكثير من الامبراطوريات الهندية للبنجاب البريطاني. ومازالت القصور الجميلة المشادة على الطراز الفكتوري تصطف على جانبي الساحة المستطيلة: المحكمة العليا، منزل الحاكم، مبنى البريد العام، الكلية الحكومية، متحف لاهور وبيت كيم للعجائب. حتى كلية الفنون التي شيدها والد كيبلينغ، جون لوكوود كيبلينغ مازالت قائمة، إذ يجلس الطلبة تحت مراوح ضخمة في القاعة ذات الدعائم.
على بعد كيلومترين عبر هذه المدينة المزدهرة ذات الثمانية ملايين نسمة يقع الجزء المسوّر من مدينة لاهور اللاهث المغطى بالعَرَق قديما لا يتغير. هنا، وفي ليلة ماطرة من شهر يناير/ كانون الثاني، يستطيع المرء تخيل الشاب المسرع كيم ينطلق عبر الطين وجحافل الإنسانية المحتشدة، وعلى سطوح المنازل لتأدية خدمة غامضة لامرأة ما. وفي قلب ذلك الجزء من المدينة تقع قلعة لاهور، ببواباتها وحدائقها وجوامعها وزينتها؛ ثاني أجمل نصب مغولي بعد تاج محل، وتتجمع خارج أسوارها بيوت ذات ساحات داخلية قذرة، وأسواق وأكشاك طعام وبيوت دعارة وأزقة ذات قذارة وتداعٍ لا يمكن تصورها. وتجد في وسط ذلك كله معابد ومساجد وقصورا متداعية. لم تجرِ إعادة ترميم سوى مبانٍ قليلة من قبل بعض المتحمسين، مثل مطعم عش الكوكو القريب من القلعة.
لم أرَ في أية مدينة أخرى في هذا العالم عظمة كهذه وتجاهلا كهذا. مواقع باكستان الأخرى القديمة، مثل مواقع حضارات الإندوس وتكسيليا والموينجودارا، محمية بشكل جيد. إلا أن عمليات الحفاظ على قلعة لاهور وحدائق شاليمار الجميلة في شاه جيهان في الضواحي محدودة. وأصبح إنقاذ لاهور نفسها كفاحا يائسا يقوم به مناضلون وحيدون قلائل، مثل مهندسة العمارة ياسمين لاري من كراتشي وكميل ممتاز من لاهور.
وجاء التفجير الأخير في المحكمة العليا بعد محاولات مثابرة من قبل الحكومة لهدم المبنى، على رغم جدرانه ذات القوالب الجميلة والبلاط الطيني الملون، والرخام وخشب «التيك» في الداخل. كما حاولت السلطات أيضا هدم سوق تلينغتون القديمة المطلة على الساحة التجارية. ونتيجة لاحتجاج عنيف من قبل الجمهور تم إنقاذ المبنى الذي يشبه محطة قطارات إنجليزية في شرق أنغليا وهو الآن مركز فني مزدهر.
لا يعود إهمال كهذا إلى نقص المساعدة، فقد قدم البنك الدولي عشرة ملايين دولار لترميم المدينة القديمة، وهو المبلغ الذي كانت تدفعه الدولة للصرف الصحي. وقد قام مشروع تحت اسم التنمية المستدامة للمدينة المسورة باستئجار مكاتب وتوظيف بيروقراطيين، ولكن يبدو أنه فقد العزيمة على الحفاظ على أي شيء. ولا يحاول أحد منع شركة فنادق من شراء شارع من المباني التقليدية وهدمها. وبيوت كهذه تبلغ قيمتها ملايين الدولارات في مراكش وقد يحصل ذلك يوما ما في لاهور. لا توجد حماية لهذه المباني وإن وجدت فإن رشوة في مكانها ستلغيها.
حتى مشروع متواضع قامت به ياسمين لاري لترميم الممر الملكي عبر المدينة المسورة من بوابة دلهي إلى القلعة قد توقف، نتيجة لخليط من الفساد وعدم القدرة على الحركة. البوابة نفسها جرى تدميرها من قبل البريطانيين في القرن التاسع عشر، وأعيد بناؤها، بضغط من اللورد كورزون نائب الملك في القرن العشرين على الأرجح. ويمكن عبر ظلمة الممر الملوكي رؤية أقواس مغولية وأطاريف محفورة وأروقة معمّدة كلاسيكية. تاريخ باكستان كله هنا، ولكنه يتحلل أسفل أحياء فقيرة آخذة بالامتداد وشبكات عنكبوتية من الأسلاك وأكوام من القمامة.
كانت باكستان تفخر بمدنها من حيث إنها أكثر نظافة وحداثة من مدن الهند، والآن لم يعد ذلك صحيحا. فبينما تسعى إسلام آباد لإيجاد ماضٍ لها، يتداعى ماضي لاهور حولها. شعور من الإهمال الشديد يخيم فوق جدرانها القديمة لدرجة أن نحو أربعمئة مبنى قديم سيجري هدمها؛ لأنها أصبحت خطرة.
السبب يعود إلى الحكم من قبل دكتاتور بعيد. يفتخر الكثير من الحكام الدكتاتوريين بماضيهم ويتوقون لترك أثرهم على حكايات الأمة. انطبق هذا على شاه بلاد فارس، بل وحتى على صدام حسين. من المحزن أن باكستان اليوم، التي كانت جزءا ساطعا من الإمبراطوريات المورية والمغولية والبريطانية في الهند، قد أبعدت نفسها عن تلك الحكايات. على رغم أنها تواقة لأن تحوز على الإعجاب في الخارج إلا أن مشرف قد ترك إحدى مدن آسيا العظيمة تنحدر إلى غياهب القذارة.
لست متأكدا، ولكنني أعتقد أن أية دولة تهمل ماضيها تفقد الاتصال بحاضرها وتعرّض مستقبلها للخطر. من الإندوس إلى جبال الهيملايا، يجب أن تكون باكستان هدفا لرغبة كل مسافر مغامر.
* صحافي بريطاني مخضرم وكاتب في «الغارديان»، والمقال ينشر بالتعاون مع «كومن غراوند»
إقرأ أيضا لـ "Common Ground"العدد 1980 - الأربعاء 06 فبراير 2008م الموافق 28 محرم 1429هـ