إعلان فوز باراك أوباما بالرئاسة الأميركية شكَّل مناسبة لمراكز البحوث ومعاهد الدراسات ومؤسسات الضغط واللوبيات والمراجع الأكاديمية والنخب السياسية بإسداء النصائح للرئيس المنتخب. فالنصائح بلغت المئات حتى الآن وكلها تدّعي أنها تحمل خشبة الخلاص وتنقذ البارجة الأميركية من الغرق. النصائح في معظمها سياسية واقتصادية تتأرجح بين تغليب الجانب الداخلي على الخارجي أو توظيف الجانب الخارجي لتصحيح المعادلة والعودة إلى عقلية الشراكة والتفاوض والابتعاد عن سياسة استخدام القوة إلا في الحالات الاضطرارية.
إلا أن النصائح على نجاعتها تعاني من خلل في توجهاتها لكونها تنطلق من وجهات نظر مقررة سلفا ولا تقرأ التحولات التي طرأت على المنظومة الدولية وتراجع الموقع الأميركي وضعف الاقتصاد المحلي وعدم قدرته على استعادة مكانته الحيوية التي كان يتمتع بها نسبيّا قبل عقد من الزمن. فالنصائح في معظمها نظرية تحتاج إلى إعادة قراءة في ضوء المتغيرات التاريخية وهي في رؤيتها العامة قد تكون صحيحة لكنها ميدانيّا تصطدم بعقبات ليست بسيطة بسبب الضعف الأميركي البنيوي وتعارض الاقتراحات المعروضة على طاولة البيت الأبيض.
تعارض النصائح يشكل بحد ذاته مشكلة عويصة أمام أوباما وتضع أمامه سلسلة من العقبات تعطل عليه الاختيار بين اقتراح وآخر. هناك من يطلب منه الإقلاع عن استراتيجية جورج بوش وتركيز الانتباه على الداخل الأميركي والبدء في توظيف الأموال في القطاعات المدنية المنتجة وتحديث البُنى التحتية وتأمين ملايين فرص العمل وحماية الودائع وتحسين الضمانات الاجتماعية والصحية للفئات صاحبة الدخل المحدود. وهناك من يطلب منه عدم التخلي عن السياسة الخارجية والاستفادة من السمعة الجيدة التي اكتسبتها الديمقراطية الأميركية بعد انتخابه رئيسا والبدء في استخدامها سياسيّا لترويج النموذج سلميّا على الشعوب في العالم.
النصائح كثيرة وبعضها مثير للقلق لأنه يريد تعويض الفجوات السابقة باعتماد سياسة متسرعة وغير واقعية في التعامل مع التحولات الدولية والمتغيرات التي أصابت مراكز القوى الاقتصادية والمالية في العالم. فهناك كما يبدو شبه قناعة تراهن على أن تغير بشرة لون الرئيس الأميركي خطوة كافية لتأكيد أن السياسة الأميركية دخلت في منعطف مغاير لكل الفترات السابقة. ومثل هذه القناعة الايديولوجية تبدو متهالكة سياسيّا في حال تم اختبارها عمليّا في الحقول التي تلعب الدور المركزي في تقرير توجهات الإدارة. فالإدارة في نهاية المطاف تشكل ذاك المصب لمجموعة مصالح تسيطر على الاقتصاد وأسواق المال وشركات الطاقة ومؤسسات التصنيع الحربي. والقرارات التي ستتخذها الإدارة لن تكون بعيدة عن ضغوط مراكز القوى الثابتة إلا في حال نجح الرئيس الجديد في تفكيكها أو إضعافها أو استبدالها بمراكز قوى جديدة لها مصلحة في القيادة وعندها الاستعداد على المواجهة وتمتلك القدرات الخاصة لمساعدة أوباما على إبعاد «اللوبيات» التي تحكمت بقرارات إدارة بوش.
المعركة داخلية
المعركة إذا داخلية ومصلحية قبل أن تكون عرقية (لونية). فاللون إشارة مبدئية تؤكد قابلية أميركا واستعدادها للتغير، لكنه ليس كافيا للمبالغة في المراهنات والذهاب بعيدا في رؤية اختلافات وافتراض توقعات تحتاج إلى فترة انتقالية للحكم على نتائجها. وبهذا المعنى تعتبر مختلف النصائح التي أسداها الكثير من المجاميع مجرد آراء وإرشادات نظرية لا قيمة فعلية لها إذا فشل أوباما في إدارة توازن المصالح الداخلية وتعديلها من مجموعة لوبيات احتكارية تؤيد الاستمرار في استراتيجية بوش إلى مجموعة أخرى قادرة على تعديل التوجهات الدولية وتحديدا في منطقة «الشرق الأوسط الكبير».
المسألة الخارجية داخلية أولا وهي لا يمكن أن تتغير بمجرد تغيير الرئيس لأنها تقوم أصلا على موازنة مصالح تحتاج إلى تعديلات في الرؤية مدعومة بقوة مالية ومراكز قوى اقتصادية لها مصلحة في تعديل الإستراتيجية الدولية والعودة إلى أسلوب الشراكة والتفاوض والتنازل حتى تكسب الثقة وتستعيد تلك المكانة والدور ضمن وظائف تحترم توازن مصالح الدول الكبرى.
هذه المسألة المهمة تبدو شبه غائبة عن جدول النصائح التي انهمرت على أوباما لحظة انتخابه. فالنصائح في مجملها مثالية ومتعارضة في رؤيتها للوقائع إذ تتراوح مثلا بين فريق يطالبه بالتركيز على المسار السوري - الإسرائيلي لأنه أقل كلفة ويخدم أمن «إسرائيل» وبين فريق يطالبه بعدم إهمال المسار الفلسطيني أوالتراجع عن وعد «الدولة القابلة للحياة» خوفا من الإحباط والانتكاس إلى فترة من العنف والفوضى. كذلك تتراوح النصائح عراقيا بين فريق يطالبه بالتروي وعدم الإسراع بالانسحاب وفريق يطالبه بالاستفادة من «الاتفاقية الأمنية» لتمديد الاحتلال وتحسين شروط تموضعه. والأمر نفسه يتكرر من جهة التعامل مع الملف النووي الإيراني إذ تتراوح النصائح بين قابل بتعزيز التفاوض وتطوير اللقاءات «الفنية» و«التقنية» إلى طور سياسي أعلى وبين رافض للتنازل في الجانب النووي لأنه يعطي إيران قوة إقليمية يصعب التحكم لاحقا في تداعياتها الأمنية.
كثيرة هي النصائح ومجملها يدور حول تحسين سمعة النموذج الأميركي وإعادة هيكلته وتصحيح فجواته وثغراته تمهيدا لتصديره وفق مواصفات لونية جديدة يمكن استثمارها نفسيّا وثقافيّا والبناء عليها لتطوير علاقات مع شعوب تتطلع نحو «الحرية» و«المساواة» و«العدالة». هناك ما يشبه التفاؤل الأميركي بإمكان العودة إلى لعب دور عالمي من دون حاجة إلى إعادة نظر بالهيكل الداخلي للاقتصاد وموقع مراكز القوى المالية في تقرير قرارات الإدارة. وهذا النوع من التفاؤل مبالغ بتوقعاته ورهاناته لأنه يقوم على نظرية خاطئة تفصل بين السياسة الخارجية وتوازن السوق المحلية. والفصل بين الداخل والخارج يعتبر ثغرة كبيرة في تلك النصائح النظرية التي لا تقرأ المتغيرات التاريخية وتأثيرها في رسم خريطة دولية مخالفة للطموحات المثالية التي أخذت تسيطر على مخيلة طاقم أوباما الإداري. فالطموحات هذه تحتاج إلى إعادة قراءة نقدية للملفات تعتمد على التحولات الدولية في توازن القوى وموقع الدول الكبرى الصاعدة على مسرح التاريخ. ومسرح التاريخ لا يقتصر على تكرار المشاهد الزمنية وإنما أيضا يفرض شروطه الجغرافية ومعادلاته الاقتصادية ومصلحته في الضغط لتعديل الرؤى السياسية.
إعلان فوز أوباما بالرئاسة شكل مناسبة للنصائح ولكن التغيير يحتاج إلى معادلة جديدة تبدأ بالداخل الأميركي ومدى استعداد واشنطن على تغيير مراكز القوى التي يعود إليها في النهاية اتخاذ قرار الإصلاح أو التحديث أو تحسين السمعة... وغير ذلك سيكون من الأمور الصعبة. والصعوبة عادة لا تبدأ إلا بعد انتقال أوباما من موقع الرئيس المنتخب الذي يستمع للنصائح إلى منصب الرئيس الذي يتخذ القرارات
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2285 - الأحد 07 ديسمبر 2008م الموافق 08 ذي الحجة 1429هـ