إذا كانت هوليوود قد شعرت في الأربعينات بصدمة كبيرة حين راحت الأنباء عن احتمال أن يكون نجمها الساحر ايرول فلين قد عمل، بشكل أو بآخر، مع الاستخبارات النازية قبيل الحرب العالمية الثانية وخلال سنواتها الأولى على الأقل فإن ثلاثة من فناني السينما الكبار، عادوا وأثلجوا صدر عاصمة الفن السابع، حين كشف عن أعمال قاموا بها خلال تلك الحرب نفسها لصالح الحلفاء، والاستخبارات البريطانية والأميركية في آن معا. ولعلها كانت واحدة من المرات القليلة التي لم يصدم فيها عمل فنان في أجهزة الاستخبارات، لا جمهور المعجبين به ولا أهل المهن الفنية عموما.
ومع هذا لم يكن هينا على هؤلاء جميعا أن يعرفوا أن غريتا غاربو كانت واحدة من أولئك الثلاثة. فغاربو، حتى وإن كانت قد أبدعت قبل ذلك في لعب دور الجاسوسة الأشهر في النصف الأول من القرن العشرين ماتا هاري، كانت، بالنسبة إلى جمهورها، نموذج الفنان الملائكي المنزه عن الأمور اليومية، الفنان الذي يعيش في علياء فنه وأبراجه العاجية. من حول غاربو كانت الشائعات تتكاثر والحكايات تملأ أعمدة الصحف، لكنها هي كانت دائما أقرب إلى الصمت. ولقد زاد من حدة الأمر كله أن فاتنة السويد الهادئة، كانت أعلنت عن قرب اعتزالها التمثيل. وهي فعلا بعد حكاية عملها مع الاستخبارات الأميركية (بالشكل الذي سنتحدث عنه بعد قليل) اعتزلت وغابت، إذ لم تمثل سوى فيلم واحد له عنوان، كانت له دلالته في ذلك الحين على أية حال: «المرأة ذات الوجهين». وقبل ذلك، أي مباشرة قبل اندلاع الحرب، كانت غريتا غاربو، قد أثارت حماس مئات ملايين المتفرجين، حين صرخت في فيلم «نينوتشكا» أحد آخر أفلامها قائلة على لسان البطلة: «يارفاقي... يا شعوب العالم كله، أن الثورة سائرة في طريقها، وأنا أعلم هذا. لكن الحروب ستنهمر علينا، والقنابل ستسقط فوق رؤوسنا. والحضارة كلها ستتهاوى... كل هذا سيحدث، ولكن أرجوكم أخروه قليلا... انتظروا بعض الشيء، إذ ليس ثمة ما هو ملح. فلنعش سعداء، امنحونا بعض الوقت!». لكننا نعرف ان هتلر لم يستجب يومها لنداء غريتا غاربو هذا. لذلك نراها بعد فيلم «نينوتشكا» وإذ اندلعت الحرب، تتوجه إلى السويد، موطنها الأصلي، لتعيش فترة من الزمن عاملة لصالح الاستخبارات الأميركية هناك.
ولكن قبل التوقف عندما يفترض أن غريتا غاربو قامت به في السويد بين 1939 و1943، قد يكون من المفيد التوقف عند نشاطات رفيقي غريتا غاربو السينمائية الآخرين، ألكسندرا كوردا وستارلنغ هايدن، لكي يكتمل جزء من صورة ما قامت به هوليوود من «مجهود حربي» في ذلك الحين. ونبدأ بستارلنغ هايدن الذي كان واحدا من كبار ممثلي هوليوود حينها ودوره كان محدودا على أية حال على رغم خطورته.
ففي العام 1943، توجه ستارلنغ هايدين إلى القاهرة ليعيش فيها ردحا من الزمن. كثيرون يومها اعتقدوا أن لديه هناك مشروعا سينمائيا، أو أنه انما شاء اللجوء إلى بعض الراحة بعيدا عن الحرب المستعرة في أوروبا. لكن هذا كله لم يكن صحيحا. في القاهرة كان هايدن، يشتغل لحساب «مكتب الخدمات الاستراتيجية» الذي كان أسس في العام 1942. وكانت مهمة هايدن تقوم في استخدام شهرته ومكانته وحماسه لقضية المقاومين اليوغوسلافيين من أنصار تيتو، من أجل تهريب الأسلحة والمؤن من مصر إلى يوغسلافيا، عن طريق البحر، وفي يخت كان يقوده بنفسه. وهو روى تفاصيل هذا كله في كتاب أصدره بعنوان «جوال». ولقد ظل عدد من القادة اليوغوسلاف الذي اطلعوا على الأمر، يشعرون بالدين تجاه هايدن سنوات طويلة. أما في الولايات المتحدة فإن ذلك النشاط، سبب للممثل الشهير متاعب مع اللجنة الماكارثية لاحقا، إذ اتهمته بمناصرة الشيوعيين، ولم يخلصه من براثن اللجنة، سوى تقارير سرية بعثت بها أجهزة الاستخبارات الأميركية إلى اللجنة.
صديق تشرشل
حالة الكسندر كوردا، وهو كان واحدا من أشهر مخرجي السينما خلال نصف القرن الأول من حياتها، تبدو أكثر تعقيدا، إذ ان هذا كان في الأصل - وهو انكليزي من أصول مجرية - على علاقة وثيقة مع الرئيس البريطاني ونستون تشرشل. وكان تشرشل هو الذي أرسله إلى الولايات المتحدة، تحت غطاء العمل على إنشاء تعاون سينمائي بين البلدين. لكن دور كوردا كان أكبر وأهم: كان عليه أن يشتغل على الرأي العام الأميركي بغية اقناعه بضرورة دخول الولايات المتحدة الحرب. ففي ذلك الوقت المبكر، كان تيار الانعزال الأميركي المنادي بأن على أميركا أن تبقى على الحياد بين الحلفاء والمحور، كبيرا. وكان كل أميركي يطالب بدخول الحرب يعتبر مارقا ان لم يوسم بالشيوعية. ومن هنا كان دور كوردا أساسيا. والحال أن هذا كان قد بعث إلى العالم الجديد، قبل وصوله هو شخصيا بفيلمه «ليدي هاملتون» الذي حقق نجاحا كبيرا لكنه قوبل بهجوم كبير من قبل دعاة الانعزال. لماذا؟ ولماذا حقا، طالما ان أحداث الفيلم تدور خلال الحملات النابوليونية؟ بسبب جملة ترد في الفيلم على لسان اللورد نلسون، وعرف الأميركيون كيف يفسرونها. إذ في أحدى لحظات الفيلم يقول نلسون: «ان نابليون لن يمكنه أبدا أن يصبح سيد العالم، إلا بعد أن يسحقنا. وصدقوني أيها السادة أنه يريد حقا أن يصبح سيد العالم. وأنا أقول لكم أنه لن يكون في وسعنا أبدا أن نعيش في سلام مع وجود الدكتاتوريين. لذلك علينا تدميرهم».
هذه الجملة التي عرف لاحقا أن ونستون تشرشل صاغها بنفسه ودمجها في حوارات فيلم صديقه كوردا. فهمها الأميركيون جيدا. وربما فهموا بسرعة فحوى الدور الذي أرسل كوردا ليلعبه في بلدهم لحساب تشرشل والمخابرات البريطانية... وكاد هذا يتسبب للرجل في محاكمة حقيقية استدعي إليها، على أن تجري يوم 12 ديسمبر/ كانون الأول 1941. ولكن حدث أن هاجم اليابانيون بيرل هاربور يوم 7 من الشهر نفسه. فكان أن تحول كوردا، في نظر الأميركيين من مشبوه إلى بطل قومي (حسب تعبير الباحث الفرنسي رولان لاكورب). ولكن سواء اعتبر الأميركيون كوردا مشبوها أو بطلا قوميا، فإن الحقيقة تقول لنا أن الرجل كان مكلفا من قبل تشرشل بفتح مكاتب في لوس انجيليس وفي روكفلر سنتر بنيويورك، واجهتها أن تكون شركة سينمائية أميركية/ بريطانية مشتركة، أما حقيقتها فهي أنها كانت تشكل غطاء لعمل ناشطي الاستخبارات البريطانية في أميركا. وكانت مهمة هؤلاء، وبالاتفاق مع الرئيس ايزنهاور ورجله في أجهزة الاستخبارات الأميركية ويليام دونوفان - ومن وراء ظهر الكونغرس -، كانت مهمتهم تقوم في اخبار الأجهزة البريطانية حول جديد الاستراتيجيات الأميركية، وتعبئة الرأي العام من أجل وقوف أميركا إلى جانب الحلفاء في أوروبا، ومد الروس بالأسلحة والمساعدات في حربها ضد هتلر، وأيضا تجنيد أهل هوليوود للوقوف إلى جانب قضية الحلفاء بدورهم. ونحن نعرف ان الكسندر كوردا قد حقق نجاحا كبيرا في المهمات كافة التي كلف بها... وهو نجح خصوصا في أن يبقى نشاطه كله نشاطا مكتوما لم يعرف به حتى أقرب المقربين إليه، بحيث أن كاتبي سيرته لاحقا، لم يذكروه إلا عرضا. أما تشرشل فكان يقول دائما ان «هذا الفنان النشيط والمتواضع قد لعب دورا لا ينس خلال الحرب» من دون أن يخطر في بال أحد أن الزعيم البريطاني يشير إلى دور كوردا في إطار العمل الاستخباراتي: كان الكل يعتقد أن الإشارة انما هي إلى نشاطه السينمائي الذي قرب بين بريطانيا والرأي العام الأميركي... لا أكثر.
غريتا في اسكندنافيا
نشاط غريتا غاربو في السويد، لم يكن على ضخامة نشاط كوردا وأهميته بالطبع، لكنه كان نشاطا مفاجئا ومفيدا لقضية الحلفاء. وبشكل أكثر تحديدا: لقضية المناضلين ضد هتلر، في السويد وربما في المناطق الاسكندنافية كافة. ومع هذا فإننا حتى اليوم لا نملك المعطيات القادرة على رسم الصورة المتكاملة لما قامت به فاتنة السينما الهوليوودية الكبيرة، في ستوكهولم خلال تلك الفترة الصعبة. كذلك فإن معظم الكتب التي تناولت سيرة غريتا غاربو - وهي تعد بالمئات - لا تذكر شيئا عن الأمر، حتى وان رمت شذرات من هنا وأخرى من هناك. لكن ثمة كتابين على الأقل، اوردا بعض التفاصيل، وهما كتاب «مأثر واخفاقات الجاسوسية الأميركية» وهو من تأليف بيار دي فيلمارست وصدر في جنيف العام 1978، وكتاب «النازية والحرب العالمية الثانية في سينما التجسس» لرولان لاكورب وصدر في باريس العام 1983. وبالاستناد إلى الكتابين وإلى بعض الشذرات والحكايات يمكن، على أية حال، وضع صورة الصورة التالية لـ «مساهمة» غريتا غاربو، احدى أكبر النجمات والأساطير في تاريخ السينما، في العمل الاستخباراتي خلال الحرب العالمية الثانية.
خلال السنوات السابقة مباشرة للحرب العالمية الثانية، كانت غريتا غاربو، السويدية الأصل والمولودة العام 1905 باسم غريتا لوريزا غوستافسون، قد مثلت الكثير من الأدوار الكبيرة التي تليق بشهرتها، في أفلام مثل «ماتا هاري» (1931) و«غراند أوتيل» (1932) و«الملكة كريستينا» (1933) و«آنا كارنينا» (1935) و«غادة الكاميليا» (1937)... لكنها على رغم نجاحها الساحق في هذه الأفلام أعلنت فجأة انها لم تعد راغبة في المزيد... بل تفضل الابتعاد. ويبدو أن الفاتنة تأثرت كثيرا بشخصيات النساء التي لعبتها، وبدأت ترى نفسها على غرارهن في الحياة الحقيقية. ولكن إذا كان في امكاننا أن نتوقع أن تكون «الملكة نينوتشكا» الذي مثلت فيه دور عميلة سوفياتية تكشف الحب والحرية إذ تبعث إلى الغرب، بدا واضحا تأثرها بهذا الفيلم. وهكذا، حين اندلعت الحرب وتوجهت غريتا غاربو لتعيش ردحا من أيامها في ستوكهولم على عكس ما كان يتوقع الكثيرون، تسارعت التساؤلات ماذا تراها تفعل هناك؟ وكيف تختار هذه النجمة العالمية أن تعيش في مدينة غزاها النازيون، بينما يفر الكثيرون من ستوكهولم نحو بلدان أقل تعرضا للحرب، وخصوصا نحو الولايات المتحدة؟ والحقيقة أن الذين أطلقوا مثل تلك التساؤلات لم يكن في وسعها، أبدا، أن يتصوروا العلاقة «الحاسمة» بين وجود غريتا غاربو في استوكهولم وبين تمكن الكثير من الديمقراطيين واليساريين من الهروب بعيدا عن كماشة النازيين.
ومن أولئك الذين صعب عليهم تصور الأمر لويلا بارسونز، التي كانت واحدة من الشخصيات الأكثر نفوذا في هوليود في تلك الأيام. ففي مرة كانت فيها غريتا غاربو في الولايات المتحدة، تساءلت باسونز بدهشة وغضب عما يجعل «هذه المرأة التي أعطتها أميركا كل شيئ تستنكف عن المشاركة في قوافل النصر» التي راح الفنانون الأميركيون وغيرهم يشكلونها لدعم الجهود الحرب الأميركية والحليف، بعدما دخلت أميركا الحرب. بالنسبة إلى لويلا بارسونز، كان استنكاف غريتا غاربو مثيرا للشبهات، و»من شأنه لاحقا أن يقضي على مستقبلها السينمائي» لأن «الشعب الأميركي والشعوب الحرة» كلها، في رأي بارسونز «لن يمكنها أن تنسى الذين وقفوا معها والذين تخلوا عنها».
نجمة تجازف بحياتها
لكن لويلا بارسونز لم تكن تعرف، وهذا طبيعي، ان غريتا غاربو، وفي ذلك الوقت بالذات، كانت تجازف، ليس بمستقبلها الفني وحده، بل بحياتها أيضا، من أجل القضية نفسها التي خيل لبارسونز انها هي كافلتها وحاضنتها.
في ستوكهولم كانت غريتا غاربو، في تلك الأوقات بالذات، تعيش أخطر شهور حياتها. وعلى الأقل هذا ما يؤكده كتاب بيار دي فيلمارست المذكور أنفا، والذي يقول استنادا إلى الكثير من الوثائق والمعلومات التي جمعها، أن غريتا غاربو كانت بين العام 1939 و1943 وخلال الشهور التي تقيم أثناءها في استوكهولم «محورا رئيسيا لعمليات الهروب والتهريب وجمع المعلومات لصالح الديموقراطيين والحلفاء» وليس في السويد وحدها، بل كذلك في الدانمرك وفي بقية البلدان الاسكندنافية. وهذا العمل كله كان تطوعيا وسريا، قامت أهميته الكبرى على كونه لم يثر أدنى ارتياب من جانب النازيين، الذين كانوا - على العكس من ذلك - يبدون تقديرا كبيرا للفاتنة الهوليودية ويسهلون لها مهماتها دون أن يدروا.
ولكن كيف بدأت حكاية غريتا غاربو مع العمل الاستخباراتي (والانكليزي اكسسورايا)؟
في العام 1939، عين ويليام ستينفنسون مسؤولا أساسيا عن أجهزة التجسس ومكافحة التجسس في بريطانيا، وهو بهذه الصفة سيلعب دورا أساسيا في طول أوروبا وعرضها، وسيرد اسمه في الكثير من القضايا والعمليات، وربما أيضا في قضية ايرول فلين نفسه. وستينفنسون هذا، كان هو المولج من قبل ونستون تشرشل بنسج علاقات مع زميله الأميركي ويليام دونوفان، والذي كان يعتبر اليد اليمنى للرئيس روزفلت في مجال العمليات السرية، تماما كما أن ستينفنستون كان يعتبر اليد اليمنى لونستون تشرشل في النوع نفسه من العمليات. والاثنان تعاونا على إقامة الكثير من الشبكات التي خاضت الحرب السرية ضد النازيين في الكثير من البلدان الأوروبية. وكان ستينفستون، على رغم جنسيته الكندية، من أصول اسكندنافية، وهو قبل تفرغه التام لأعمال أجهزة الاستخبارات، كان خلال النصف الثاني من العشرينيات، قد عمل في إنتاج الأفلام الصامتة، وهناك تعرف إلى غريتا غاربو وارتبط معها بصداقة عميقة. عرفها في قمة مجدها، وكان يعرفها عن كثب عند نهاية العقد التالي حين بدأت تفكر بالاعتزال. وكان ستينفستون يعرف مقدار حماسها لأي شيئ تقدم عليها، لذلك، ما أن فكر بأن الوقت قد حان للقيام بعمليات في اسكندنافيا، حتى فكر فيها وفاتحها بالأمر، فوافقت دون تردد. وبمساعدته اللوجستية بدأت تقسم وقتها بين شقتها في نيويورك، والفيلا التي تملكها في الريفيرا الفرنسية، ومنزل لها في سويسرا، ثم شقق كثيرة في بلدان اسكندنافية كثير، أهمها شقتها الفخمة في ستوكهولم. وفي العاصمة السويدية بالتحديد، راحت غريتا غاربو تظهر نوعا من الحياد المتواطئ المزعوم، مع البعثات الثقافية والديبلوماسية النازية التي كانت قد بدأ تتكاثر متعاملة مع السويديين (ذوي الجذور الجرمانية، حسب المقاييس النازية) تعاملا يفضل التعامل مع بقية الشعوب. وصارت غريتا غاربو تدعى إلى كل الحفلات والمناسبات التي يقيمها كبار القادة العسكريين والديبلوماسيين الألمان في العواصم الاسكندنافية. ولكا كان كل واحد نت هؤلاء يجد نفسه ميالا، في حضرة السيدة والنجمة الكبيرة، إلى الثرثرة والحديث عما فعل وعما سيفعل، كان ما تجمعه غريتا كل يوم يشكل حصيلة رائعة من المعلومات والآراء، كانت هي تكتفي بجمعها، من دون فرز أو تمحيص، وترسلها إلى ويليام ستينفنسون الذي يقوم، هو، بالضروري من التحليل، ويبدو أن غريتا غاربو ظلت طوال سنتين أو أكثر قادرة على أداء ذلك العمل على خير وجه، بل ان شقتها في ستوكهولم، تحولت منذ العام 1942، ودائما دون أن يشتبه النازيون بشيء، مكان لجوء وانطلاق لـ «لكل عميل ومضطهد ديموقراطي يسعى إلى الهروب إلى أماكن أكثر أمانا له من أوروبا المحتلة». والمرجح أن غريتا غاربو، سهلت ومولت الكثير من العمليات من هذا النوع. لكن هذا لم يكن كل شيئ... ولم يكن الأهم في نشاطتها. فالحال أن رولان كورب يقول أن بطلة «نينوتشكا» و»غادة الكاميليا»، اعتادت طوال تلك الفترة أن تقوم بجولات بين شتى المدن والمناطق الاسكندنافية، زاعمة أنها مكلفة من قبل شركة «بارامونت» السينمائية باختيار ممثلين وممثلات لأفلام الشركة... وهي فعلت هذا خصوصا في فنلندا وعدة مرات متعاقبة. غير أن المهمة الحقيقية التي كانت تقوم بها هناك، كانت القيام باتصالات سرية مع مجموعات المقاومة المناهضة للنازيين، لحساب أجهزة مكافحة التجسس والاستخبارات الأميركية. بل أن ستينفنسون ودونوفان غالبا ما كلفاها بإيصال أموال وأخبار إلى تلك المجموعات.
من المؤكد أن غريتا غاربو، بابتسامتها الخالدة وصمتها الشهير، كانت خير من يمكنه أن يؤدي تلك المهمة. وهي حين بدأت منذ نهاية العام 1943 تقلل من زيارتها إلى اسكندنافيا، كان واضحا أنها شعرت بأن عملها قد انتهى وانها لو غامرت بالمزيد ستنكشف. ويقينا أنها ابتسمت كثيرا حين سمعت ما قالته عنها لويلا بارسونز، كما ابتسمت حين كانت تتخيل وجوه القادة النازيين ولا سيما منهم الذين وقعوا في هواها واستفادت من هيامهم بها للقيام ببعض مهماتها، كانت تتخيل وجوههم، حين يعرفون أخيرا، ما كانت تقوم به حقا.
أخيرا، وعلى رغم سرية ما قامت به، وان قلة من الناس درت به وتحدثت عنه، لم يفت الأجهزة الأميركية والبريطانية أن تشير لاحقا، وان بأشكال مواربة إلى الخدمات العظيمة والشجاعة التي قدمتها غريتا غاربو خلال الخمسين سنة الأخيرة من حياتها (إذ رحلت في العام 1990) ظلت محافظة على سرها هذا، بين الكثير والكثير من الأسرار التي صمتت عنها طوال حياتها وشكلت أسطورتها الخالدة... على عكس زميليها الكسندر كوردا الذي صارت مأثره أمثالا تضرب، وسترلنغ هايدن الذي روى بنفسه عكس أعماله البطولية فخورا، ولم يفت المخرج سيدني بولاك أن يتحدث عنها بوضوح في بعض حوارات فيلم «ثلاثة أيام للكوندور» الذي مثله روبرت ردفورد لاحقا.
* قصة من كتاب «حكايات صيفية»
العدد 1980 - الأربعاء 06 فبراير 2008م الموافق 28 محرم 1429هـ