العدد 1979 - الثلثاء 05 فبراير 2008م الموافق 27 محرم 1429هـ

الاحتلال... والخلاف على إدارة غزة

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

هل تتحول مأساة قطاع غزة من مشكلة مع الاحتلال الإسرائيلي تتحمل مسئوليتها حكومات تل أبيب إلى مشكلة داخلية بين «حماس» و «فتح» أو بين حكومة إسماعيل هنية ومصر أو بين غزة والدول العربية؟ ما يحصل منذ فرض الحصار الذي تصاعد تلقائيا من 23 يناير/ كانون الثاني الماضي إلى الآن يؤشر إلى وجود مصلحة إسرائيلية في نقل المشكلة ورميها في الجانب المصري ودفعها استتباعا إلى العمق العربي والإسلامي.

الواقع في النهاية يفرض شروطه الميدانية وهناك الكثير من الحقائق التي تتأسس على الجغرافيا والتاريخ تنتج آليات سياسية تتجاوز الايديولوجيا. فحماس التي انفردت بقيادة القطاع منذ نحو سنة تقريبا فشلت في تكوين تجربة تتجاوز ذاك النموذج الذي توصلت إليه فتح خلال فترة إدارتها لشئون القطاع. وفشل حماس في إنتاج تجربة تتعدى تلك التي توصلت إليها فتح يؤكد على أن الواقع يفرض شروطه الموضوعية بغض النظر عن الايديولوجيا والأفكار العامة.

الحقائق الجغرافية لواقع غزة أقوى من كل الايديولوجيات والشعارات اللفظية. فهذا الأمر محكوم في النهاية بتدبير المسالك والمعابر لقطاع محاصر في مجاله الحيوي وليس عنده من منافذ عملية سوى بوابات ثلاث: البحر، فلسطين، وسيناء.

البوابات الثلاث فرضت على إدارة القطاع من أيام فتح إلى حماس ثلاثة حلول إطارية تتلخص إما بالتفاهم مع الاحتلال لتأمين مخارج ومداخل لأهل غزة، أو التوافق مع مصر لترتيب علاقات إدارية مضمونة ومضبوطة، أو الاتصال مباشرة بأوروبا وطلب حماية دولية لممر بحري تشرف عليه «القبعات الزرق» لنقل البضائع من وإلى القطاع.

هذه الحلول الإطارية تعرضت دائما لغارات أو مخالفات من الجانب الإسرائيلي تحت سقف لا ينتهي من الذرائع السياسية والأمنية. وبسبب الاحتلال أقدمت حكومات تل أبيب على تعطيل الممر البحري ومنعه من العمل والحركة الأمر الذي دفع شركات البواخر إلى تجميد نشاطها التجاري مع مرفأ غزة. كذلك عطل الاحتلال النظام المتعارف عليه مع الإدارة المصرية بذريعة تسريب أسلحة وغيرها من مواد محرمة. كذلك تم تخويف قوات المراقبة الدولية المشرفة على تنظيم حركة المعابر فاضطرت إلى إنهاء أعمالها ومغادرة القطاع بعد استيلاء حماس عليه. حتى مطار غزة أقدم الاحتلال على تقويضه وحرث مدارجه لمنع السفر بذريعة الخوف من انتقال أشخاص ملاحقين أمنيا منه واليه.

كل هذه المضايقات الميدانية أوصلت القطاع إلى حال مزرية وأسوأ مما كان عليه وضع أهالي غزة في عهد فتح أو خلال فترة ازدواجية السلطة بين الفصيلين الفلسطينيين. وتصاعدت المضايقات والتحرشات إلى أن وصلت إلى حد تهديد أهل القطاع بالاختناق ومنع وصول أبسط المواد الغذائية والصحية لسكان البلدات والمدن والقرى يتجاوز عددهم مليون ونصف مليون نسمة.

القتل عمدا سياسة إسرائيلية أدت تلقائيا إلى انفجار الغضب الشعبي وكسر الحصار جزئيا وفتح بوابة عبور إلى الجانب المصري. وشجعت الخطوة المشروعة دوليا على تحريك الإطارات وتشغيلها سياسيا بهدف التوصل إلى حل معقول ومقبول يضمن للسكان الاستمرار في العيش والعمل.

أمام هذا الواقع الموضوعي كان لابد من اللجوء إلى حلول ممكنة لا تخضع اشتراطاتها السياسية إلى الايديولوجيا. والواقع تطلب الذهاب إلى ابتكار آليات لتلك الحلول الإطارية المطروحة. فهناك الحل الإطاري الفلسطيني. وهناك الحل الإطاري العربي واستتباعا الإسلامي. وهناك الحل الإطاري الدولي. وأخيرا هناك الحل الإطاري الجغرافي.

الحل الفلسطيني فشل لأنه يفترض ضمنا عودة القطاع إلى السلطة التي يديرها الرئيس محمود عباس وبالتالي إعادة تطبيق تلك الاتفاقات الدولية التي وقعتها السلطة الفلسطينية مع الاحتلال في العام 2005. وبما أن هذه الاتفاقات انهارت مع انهيار السلطة الثنائية المشتركة منذ عام تقريبا كان لابد من التفاهم بين حماس وفتح على إعادة إنتاج سلطة تعيد الأمور إلى مواضعها السابقة. هذا الحل الإطاري الفلسطيني رفضته حماس وبالتالي امتنعت فتح عن كسره حتى لا تسقط تلقائيا تلك الاتفاقات الدولية التي وقعتها قبل ثلاث سنوات تقريبا.

الإطار الحقوقي

فشل الحل الفلسطيني فَتَحَ الباب أمام الحل الإطاري العربي الذي بدأ بدعوة مجلس وزراء الخارجية العرب إلى الانعقاد في القاهرة للبحث في صيغة تضمن ميدانيا فتح المعابر. الدعوة العربية توصلت إلى صوغ بيان تألف من 11 بندا يرتب عملية كسر الحصار عن القطاع. إلا أن البيان العربي افتقد إلى آليات تنظم ميدانيا تلك الوسائل المطلوب تأمينها واقعيا لرفع الحصار الإسرائيلي عن القطاع.

عدم توصل الحل العربي واستتباعا الإسلامي (تركيا، إيران، باكستان، وماليزيا) إلى إطار عملي يوفر تلك الممرات لوصول الإمدادات الغذائية والمالية بشكل منتظم إلى أهل القطاع فتَح الباب أمام ضرورة التدخل الدولي والمساعدة في تأمين الضغط على الاحتلال لرفع حصاره.

دوليا فشلت المجموعة العربية في مجلس الأمن في فرض قناعاتها على الدول الكبرى وتحديدا الولايات المتحدة. فالبيان العربي كان يحتاج إلى تغطية دولية ترتب تلك الآليات المطلوبة لتنفيذ بنوده العملية. الدول الكبرى وخصوصا أميركا وضعت اشتراطات سياسية (وقف الصواريخ، العودة إلى اتفاقات 2005، وإعادة قوات المراقبة الأوروبية إلى المعابر) للموافقة على صيغة القرار العربي. وحين رفضت المجموعة العربية التجاوب مع تلك الاشتراطات المسبقة حصل الانقسام الدولي وفشل مجلس الأمن في إصدار بيان بشأن حصار غزة.

فشل الحلول الإطارية الثلاثة أدى إلى العودة إلى فكرة الجغرافيا (المجال الحيوي) وبالتالي الطلب من مصر أن تلعب دورها التقليدي في إدارة معابر القطاع أو على الأقل التوافق مع الجانب الفلسطيني في تنظيم العمل ومراقبة الدخول والخروج إلى غزة.

الإطار الجغرافي إذا فرض شروطه الميدانية الأمر الذي أعاد تنشيط بوابة مصر ودورها التاريخي في إعادة ترسيم خريطة طريق مرنة تعالج مشكلات القطاع المعقدة والمتنوعة الإبعاد والمستويات. العودة إلى البوابة المصرية ليست مسألة إنسانية بسيطة كما تعتقد بعض الشرائح من الايديولوجيين العرب. فالمسألة سياسية في جوهرها وأخلاقية في أبعادها القانونية التي تتصل من قريب وبعيد بالمواثيق الدولية وقوانين حقوق الإنسان. ومثل هذه المسألة الحقوقية تتطلب قراءة دقيقة لكل الخلفيات والاحتمالات منها إمكانات العودة إلى تنظيم شئون القطاع بإدارة مصرية فلسطينية مشتركة كما كان الحال نسبيا قبل الاحتلال الإسرائيلي في حرب يونيو/ حزيران 1967.

هذا الحل المفترض الذي تقترحه الكثير من الجهات الدولية والعربية يطرح احتمالات وأسئلة تتصل بموضوع السلطة الفلسطينية نفسها ومشروع بناء «دولة قابلة للحياة» في الضفة والقطاع. فالمسألة سيادية لأنها تذهب باتجاه من يتحمل المسئولية السياسية للإدارة. والمسألة أيضا تتصل بالمشروع الإسرائيلي الاستيطاني الذي يتركز منذ الاحتلال في العام 1967 إلى الآن على القدس والضفة الغربية بنسبة عالية تصل إلى 90 في المئة. فالمشروع الاستيطاني الإسرائيلي بغض النظر عن الحاكم الفلسطيني وهويته يتركز على القدس والضفة ويستبعد القطاع من أطماعه المباشرة لاعتبارات كثيرة منها ما هو ايديولوجي (الفكر الصهيوني) ومنها ما هو ميداني (عملي). لذلك يرجح ألا تعارض تل أبيب موضوع التخلي عن مسئولية إدارة القطاع إذا كان الأمر يضعف فكرة الدولة الفلسطينية ويزعزع مفهوم السيادة ويعطل على السلطة تمثيلها التاريخي والمشروع للشعب الفلسطيني. والأخطر من كل ذلك أن تتوجه حكومة إيهود أولمرت نحو اتباع سياسة مزدوجة ترفع عنها مسئولية الاحتلال والكوارث التي أوقعتها بسكان القطاع وفي الآن تدفع التعارض باتجاه تأكيد الانقسام الفلسطيني إلى ثنائية دائمة وتحميل مسئولية نتائج الاحتلال إلى الجانب المصري.

المسألة الإنسانية التي تعصف الآن بأبناء القطاع تتطلب قراءة سياسية قانونية ترفع الحصار من جهة وتمنع انتقال التناقض مع الاحتلال إلى تعارض ضد السلطة الفلسطينية أو الحكومة المصرية. تحويل مشكلة القطاع من موضوع يتحمل الاحتلال مسئوليته إلى تجاذبات فلسطينية داخلية على إدارته أو مهمة تتحمل نتائجها السياسية الحكومة المصرية تمس جوهر نقطة حقوقية شديدة التعقيد وتتطلب رؤية استراتيجية تتجاوز تلك الخطابات الايديولوجية القاصرة في تعاملها مع الواقع وما يفرضه من شروط ميدانية.

* المقال كلمة ألقيت في مجلس المرحوم حسين محمد شويطر في المحرق مساء الأحد الماضي

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1979 - الثلثاء 05 فبراير 2008م الموافق 27 محرم 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً