الحرية للإبداع مثل الروح للجسم. يؤكد القرآن الكريم على الحرية الشخصية ويبرز علاقتها بقراءتنا الفردية. تُرِكَت حتى القضية المركزية في الدين، ألا وهي الإيمان بالله تعالى، لخيار الإنسان: «وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر». (الكهف: 29).
لذلك فإن السلوك الإنساني في الإسلام عائد لحرية الإنسان ورشده، وبالتالي فإن الخلاف بين الناس لا يمكن تجنبه بشكل جوهري، وهو متوقع من دون شك: «ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولايزالون مختلفين. إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأنّ جهنم من الجنة والناس أجمعين» (هود: 118 - 119).
ولا يقيد الإسلام حرية الإنسان بأية طريقة وإنما يحمِّل بني البشر المسئولية، فرديا وجماعيا، عن نتائج قراراتهم. يتوجب على المرء أن يفكر بأعماله ونتائجها. وقد تبدو احتمالات أن يضطر المرء أن يتعامل مع نتائج معينة على أنها تحدد حريته الفردية، إلا أن ذلك يوفر فائدة عميقة للمجتمع الذي يعزز بشكل دائم القول المشهور: «تنتهي حرية الفرد عندما تبدأ حرية الآخرين». ولولا هذا القيد لكانت الحرية لعنة من الفوضى ولأصبحت الحرية الفردية إزعاجا للآخرين وتعديا على مصالحهم وخياراتهم.
ولكن، كيف تُطبَّق مسئولية الفرد عن خياره في إطار الدين الإسلامي الحنيف؟
أولا، تُفرَض هذه المسئولية من خلال المسئولية الجزائية التي تتحملها السلطة التي تتعامل مع الشأن العام، بما في ذلك مهمة إرساء قواعد النظام. ويسمح التنازل عن المسئولية إلى سلطة أعلى، بشكل أساسي، بمنع محتمل للنزاع، أو حله إذا تفشّى. وبما أن هذه المسئولية التأديبية تهدف إلى منع الخطايا فهي تتفق مع الحديث الشريف «لا ضرر ولا ضرار»، ومع الآية الكريمة: «ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين» (البقرة: 190).
ثانيا: يحمّلنا الإسلام مسئولية أخلاقية دائمة تتعلق مباشرة بعلاقتنا بالله تعالى، الذي يُسائِل الإنسان عن أعماله يوم القيامة. ويذكر تحمُّل وزر هذه المسئولية الإنسان بالالتزام بالقيم الأخلاقية، التي يشجعها القرآن الكريم من خلال الوعد بالمغفرة الإلهية والسلام الأبدي في الجنة، إضافة إلى الإبقاء على الوعد الجزائي لمن يرتكب عملا خاطئا. ليس لأي مخلوق سلطة في العقاب أو المغفرة. الله تعالى وحده، في الحياة الآخرة، يحكم على أعمال الفرد وأفعاله. لذلك يتوجب على الفرد أن يعمل على تنقية روحه ونفسه من الرغبات الدنيوية والشهوات، وأن يعمل على تحسين علاقته مع الخالق جل وعلا.
وتنسجم وجهات النظر في الإسلام، بالنسبة إلى الحرية، مع ندائه الإلهي للإنسان إلى أن يصقل سلوكه ويستخدم مهاراته وفنونه لأجل الصالح العام، إضافة إلى الهناء الفردي. ويتمتع أصحاب المعرفة والعلم والفن بمنزلة أعظم في المجتمع بسبب قدرتهم على توضيح مختلف القضايا واتخاذ دَور عيون المجتمع وآذانه. إضافة إلى ذلك فإن لهم دورا فاعلا في المجتمع، وبالتالي تصبح مسئوليتهم تجاه الآخرين أعظم وأكثر رزانة ووقارا.
ويرحب الإسلام بالشعر والتأليف وغيرها من أشكال الفن ويحترمها طالما أنها لا تتعدى على أحد. فالتعدي على الآخرين يغلق بالتالي إجراءات جزائية ضد الفنان، بهدف الحفاظ على النسيج الأخلاقي للمجتمع وحمايته من التعدي عليه باسم حريات فردية هي في غير مكانها. ولا يحق لأحد، سوى من يملك السلطة الدينية، أن يتبوأ دورا سلطويا. ويحصل الفن على قيمته من القضية الإنسانية التي يخدمها. لذلك يجب أن يدعم دور المبدع قضايا إنسانية عادلة وأن يرسخ القيم النبيلة الساطعة. فالعلاقة بين الفن والإنسان، في نهاية المطاف، علاقة متبادلة: تماما مثلما يعيش الإنسان بالفن، يعيش الفن بالإنسان. وأي فن يضر بالمثل الإنسانية من الحقيقة والفضيلة ويسيء تمثيل تطلعات المجتمع يأتي ضمن قول النبي محمد (ص) «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليسكت».
وفي حال قيام عمل مبدع خلاق بالتعدي على فرد آخر أو يرتكب إساءة يعاقب عليها القانون، فإن من واجب السلطة أن تتخذ إجراء فوريا لاحتواء هذا التعدي، ومنع نشوب أي نزاع نتيجة لذلك. وليس مسموحا لأي إنسان أن يقنع الآخرين أو يعتقد بأنه موكَّل من قبل الله تعالى لأن يوقع عقابا أو يحمل الآخرين مسئولية أعمالهم.
يعتبر الفن الذي لا يخدم القضايا الإنسانية، من المنظور الروحاني والإنساني - في نهاية المطاف - أقل قيمة من مقاييس العمل الخلاق المبدع ذي القيمة، ويصبح بطبيعته ذا عمر قصير.
إن أية محاولة لمنع فن كهذا أو إزالته بالقوة - ما يطلق عليه البعض صفة «الفن لأجل الفن» - غير ذات جدوى، ويجب إعادة توجيه طاقات الإنسان بدلا من ذلك نحو القيام بمساهمات إيجابية تجاه مجتمعاتنا وعالمنا عبر أي أسلوب متوافر لنا. هذا التجلي لحرية التعبير التي وهبها الله تعالى لنا، أمر عظيم.
*درس بمعهد الأزهر اللبناني في بيروت وحصل على الشهادة العليا في الشريعة وشهادة الدبلوم في الفقه المقارن من جامعة بيروت الإسلامية، والمقال ينشر بالتعاون مع «كومن غراوند»
إقرأ أيضا لـ "Common Ground"العدد 1979 - الثلثاء 05 فبراير 2008م الموافق 27 محرم 1429هـ