العدد 1978 - الإثنين 04 فبراير 2008م الموافق 26 محرم 1429هـ

أميركا... ويوم «الثلثاء الكبير»

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

اليوم تدخل معركة الرئاسة في أميركا محطة «الثلثاء الكبير». فهذا اليوم يشكل منعطفا في التنافس الحزبي لاختيار المترشح الأقوى. ومن يربح معركة اليوم يفز بالبطاقة الحزبية التي ترشحه لخوض المواجهة ضد المترشح الآخر في دورة الانتخاب في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل.

نتائج معركة اليوم التي تحصل في 20 ولاية أميركية دفعة واحدة لن تظهر قبل الغد. وبعد الغد ستتضح معالم صور المترشحين الأوائل في الحزبين الجمهوري والديمقراطي. وبغض النظر عن مشهد الساحة، فإن معركة الرئاسة في هذه الدورة تعتبر الأهم في تاريخ الولايات المتحدة المعاصر؛ لكونها تأتي بعد تحولات شهدتها أميركا خلال السنوات السبع الماضية.

هذه الدولة الكبرى لا تزال الأولى في العالم، ولكنها بدأت تدخل في إطار مغاير بعد أن ظهرت آثار التعب في إدارتها المركزية في واشنطن. ويشكل المتغير المذكور بداية تحول في آليات التقدم الذي نجحت الدولة في احتلال موقع القيادة التاريخية لفترة قرن تقريبا. وهذه القيادة التي تعاملت الولايات المتحدة معها بنجاح في مختلف الفترات، على رغم درجات الصعود والهبوط والتقلبات الدولية، بدأت تعاني مأزقا يشير إلى احتمال انفلات زمام المبادرة منها في حال واصلت معاندة وقائع التاريخ وعدم الاعتراف بوجود تكتلات منافسة أخذت تشق طريقها نحو الصعود.

أميركا الآن لم تعد تلك الدولة التي تعرف إليها العالم بعد نهاية الحرب العالمية الأولى. آنذاك طرحت إدارة واشنطن بعض الشعارات العامة وأخذت تدعو من خلالها إلى الحرية والاستقلال وحق الشعوب في تقرير مصيرها. ومن خلال تلك الشعارات الكبرى المدعومة بقوة اقتصادية ناجحة عرفت واشنطن طريقها للدخول في تنافس سياسي مع الاستعمار القديم (فرنسا وبريطانيا)؛ مما أعطى الولايات المتحدة تلك الألوان التي خدعت الشعوب التائقة للحرية والاستقلال.

استمرت أميركا تنافس أوروبا القديمة وأخذت تستولي على مواقعها وتطردها أو تطاردها إلى أن وقعت الحرب العالمية الثانية. خلال هذه الحرب أظهرت الولايات المتحدة قوتها العسكرية وسرقت الأضواء من الاتحاد السوفياتي الذي قاد ميدانيا المواجهة الحقيقية ضد ألمانيا النازية والفاشية الأوروبية. وشكّل التنافس الأميركي - السوفياتي على زعامة العالم الخارج من نطاق الهيمنة الأوروبية نقطة تجاذب بين المعسكرين دفع إدارات واشنطن إلى إنفاق الأموال الطائلة لإعادة بناء القارة القديمة (مشروع ماريشال) لمنع التقدم الشيوعي من استكمال زحفه على أوروبا الغربية. ولجأت أميركا أيضا إلى تأسيس نماذجَ في آسيا (الشرق الأقصى) لقطع الطريق أمام نفوذ الصين الشعبية في جنوب شرق آسيا. شكّل هذا التنافس حالات من الاستقطاب الدولي تركز على قبول أوروبا الغربية بالقيادة الأميركية وأعطى تلك الدولة الجديدة الكثير من التغطية الإعلامية التي كانت تحتاج إليها؛ للدفاع عن سياستها التدخلية في الكثير من مناطق آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية.

بعد الخمسينات أخذت الولايات المتحدة تلعب دور الاستعمار الجديد، وبدأت تستعيد تلك اللغة القهرية التي اعتمدتها سابقا بريطانيا وفرنسا في فترة سيطرتها على العالم الثالث. واستمر هذا الدور المزدوج الذي يمزج بين خطاب يدعو إلى الحرية والاستقلال وحق الشعوب في تقرير مصيرها وسياسة الحروب التي تحركها شركات الطاقة ومؤسسات التصنيع الحربي وأسواق المال يحفر في ذاكرة التاريخ إلى أن سقط الاتحاد السوفياتي ومعسكره الاشتراكي في تسعينات القرن الماضي وانتهت «الحرب الباردة» لمصلحة المعسكر الغربي.

تسعينات

في التسعينات انفتحت الأبواب العالمية أمام «السيادة الأميركية» وانفردت واشنطن بالقيادة من دون منافس. إلا أن لوبيات الاحتكار (تكتلات المال والطاقة والسلاح) قطعت على الولايات المتحدة فرص إعادة هيكلة النموذج البديل حين أخذت تضغط على إدارات واشنطن بلعب دور القوة المهيمنة التي تفرض شروطها بالقوة ولا تحترم توازن المصالح الدولية. وابتكرت اللوبيات (المافيات) وسائل تضليل للتغطية على جشع مؤسسات الاحتكار (الكارتيلات) والشركات المتعددة الجنسية. وبما إن القوة المهيمنة كانت بحاجة إلى ذريعة دولية لتبرير استكمال هجومها الكبير لجأت إلى الخداع الايديولوجي واخترعت الأعداء الجدد وبدأت حربها المجنونة ضد الإسلام والمسلمين والعالم الإسلامي.

لم يوفر الإعلام الأميركي كذبة أو شتيمة أو ذريعة إلا واستخدمها لتغطية حربه الجديدة إلى أن وقعت هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001 في عهد تيار «المحافظين الجدد». وشكلت المناسبة قاعدة انطلاق للهجوم الجغرافي وبدأ «المحافظون الجدد» سياسة التقويض (الضربات الاستباقية) من أفغانستان وفلسطين إلى العراق ولبنان. وأدت تلك السياسة إلى تحطيم الدول وتفكيك علاقاتها الأهلية ودفعها نحو الانفجار والتشرذم تحت مسميات «الفوضى البناءة».

استهلكت إدارة جورج بوش الجمهورية مليارات الدولارات وأنفقت المليارات لتوسيع ترسانة الأسلحة أو تجديدها، وأعطت مؤسسات الحرب الأولوية في تراتبية حلقات الاقتصاد في الهيكل الإنتاجي للشركات والمصانع. وشكّل هذا التركيز على أولوية التسليح نقطة تحول في نمو الاقتصاد الأحادي وأعطى فرصة للدول الأخرى للتنافس وسد الثغرات الاستهلاكية على مستوى السوق الدولية.

الآن وصلت الدولة الأولى إلى مأزق حقيقي أخذ يزعزع قدرتها على مواصلة الإمساك بناصية القيادة العالمية. وباتت الولايات المتحدة في وضع سياسي يضغط عليها للمراجعة النقدية وإعادة النظر في سلوكها الذي جرجرها إلى مواجهات يصعب عليها الخروج منها من دون خسارة تتمثل في دفع الكلفة اللازمة لاحتواء تداعيات التراجع.

هذه الحال التي وصلت إليها إدارة واشنطن في عهد بوش واجهت تحديات كبيرة وأخذت تضغط على الحزبين المتنافسين طارحة أسئلة سياسية مهمة يتهرب المترشحون الإجابة عنها. فكل المتنافسين من جمهوريين وديمقراطيين ينظرون إلى المأزق الأميركي من زاوية صغيرة وضيقة. وهذه الرؤية المحدودة الأفق تكشف فعلا عن معضلة تاريخية أكبر من قدرات الحزبين وأوسع من تلك الملاحظات النقدية البسيطة التي يتجرأ أحيانا بعض المترشحين على طرحها بتردد وحياء.

المأزق الأميركي يتطلب قراءة نوعية لا تملكها العقول الحزبية كما هو ظاهر من العيّنات المتنافسة على منصب الرئاسة. فكل المترشحين يتحدثون عن «القشرة» الخارجية ويفتقدون تلك المعرفة التاريخية وما تنتجه آليات التطور صعودا أو التراجع هبوطا. فالكل تقريبا يناور إعلاميا وانتخابيا ويتجنب الدخول في عمق الموضوعات التي تتطلب رؤية مضادة وقادرة على تطويع جموح مؤسسات التصنيع الحربي وأسواق المال وشركات الطاقة وطمعها غير المحدود في مواصلة دفع الدولة نحو مزيد من المغامرات العسكرية أو السياسات التي تعيد تأكيد الأخطاء وربما إعادة إنتاجها بألوان جديدة، ولكنها لا تختلف في المنهج والمضمون عن فترة بوش الابن. وهذا الأمر يعني أن الولايات المتحدة في المرحلة المقبلة ستواصل الزحف الهادئ نحو هاوية النزول على دركات التاريخ.

أميركا دخلت في مجال الفشل. والفشل لا يعني بالضرورة السقوط السريع وإنما بداية طويلة ستعقبها نهاية طويلة. وهذا الأمر التاريخي من الصعب رؤية تفصيلاته من الآن؛ لأنه يحتاج إلى فترة للظهور في تشققات بدأت ترتسم معالمها في النموذج الأميركي الذي أصيب بالإرهاق.

«الثلثاء الكبير» عادة هو ذاك اليوم الذي ينتظره الجمهور الأميركي للتعرف إلى اسم المترشح من هذا الحزب أو ذاك للفوز بمنصب الرئاسة. إلا أن المعطى التاريخي بدأ يتكشف رويدا عن يوم آخر كبير ينتظر الولايات المتحدة. وأمد هذا اليوم ليس بعيدا إذا استمر المتنافسون يتضاربون على قشرة المأزق ويتهربون من الإجابة عن الأسئلة الحقيقية.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1978 - الإثنين 04 فبراير 2008م الموافق 26 محرم 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً