عندما سُئِل الروائي الأميركي بول باولز عن كيفية عيشه ومسكنه قال: «إن شقتي لا يُوجد فيها هاتف ولا جهاز تلفزيون؛ لأنهما يُعوقان صفاء ذهني. فالنهار قصير إلى درجة لا يُمكن قضاء أربع ساعات أو خمس في مشاهدة التلفزيون. فأنا أكتب في الصباح والظهيرة والمساء». وربما جرّني حديث باولز بشكل أو آخر إلى أن أُمعِن في مُنغّصات العلاقات الإيرانية - المصرية، وما تحتاج إليه هذه العلاقة من عملية جراحية عاجلة؛ لكي تتخلّص من فوبيا الانفتاح والتواصل الطبيعي.
الوقت يمضي بسرعة والمنطقة تتفاعل يوما بعد يوم، والجميع يريد أن يُحدد مصيرها طبقا للمصالح الدولية وفي مقدمتها الأميركية، وقد أكون جازما عندما أقول إن الوقت لم يعد يسمح بأن تضيع ساعات الخصومة أكثر مما ضاعت، أو يستخفّ أحد بأهميتها.
خلال الشهر الماضي تحرّكت الدبلوماسية الإيرانية بشكل لافت حين زار ممثل قائد الثورة الإسلامية في المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي لاريجاني جمهورية مصر العربية، أعقبها إجراء الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد اتصالا مُطولا مع الرئيس المصري محمد حُسني مبارك، تلاه قيام وزير الخارجية الإيراني منوشهر متّقي بإرسال مبعوثه الشخصي إلى القاهرة، تلته زيارة رئيس البرلمان الإيراني غلام حداد عادل للمشاركة في اجتماعات اتحاد البرلمانات الإسلامية، تلته بصورة متزامنة تقريبا زيارة كبير مستشاري المرشد الأعلى للثورة الإسلامية الشيخ علي أكبر ناطق نوري ولقاؤه الرئيس المصري.
وما لفت انتباه المراقبين إن الشيخ ناطق نوري خلال مؤتمر صحافي عقده في القاهرة قد تناول مجمل قضايا بلاده الداخلية والخارجية بشكل تفصيلي بدءا بالملف العراقي واللبناني والفلسطيني والحلول الإيرانية بشأنها، ومرورا باليهود الإيرانيين الذين رحلوا إلى الكيان الصهيوني وانتهاء بالملف النووي الإيراني، وقد يكون ذلك متعمّدا من الإيرانيين؛ لكي يقفزوا خطوة إلى الأمام ويرفعوا حالة الجفاء في هذه العلاقة بالمستوى الذي لا يُبقي حرجا قائما بعد ذلك.
في بحر القطيعة المنصرفة لم تكن الحجّة بين الطرفين بأكثر من إشكال اليافطة الإسلامبولية المُعلّقة في أحد شوارع طهران بصفتها حُجّة لمصر ضد إيران، ووجود قبر الشاه محمد رضا بهلوي في مسجد الرفاعي بالقاهرة حُجّة إيرانية ضد مصر، ثم تفرّعت من هذه المشكلة «الوهمية» بقية التُهم الجوّالة من اتهام المصريين للإيرانيين بأنهم يدعمون الجماعات الإسلامية في مصر خلال فترة التسعينيات وتوتير حدود مصر الشرقية بدعم حركة «حماس» في قبال السلطة الوطنية الفلسطينية، واتهام الإيرانيين للمصريين بالتآمر على إيران ومصالحها في المنطقة وخصوصا تنكيد علاقاتها بدول الخليج والتسويات الخاصة بالملفين اللبناني والفلسطيني. هذه اتهامات متبادلة تحتاج إلى حلحلة مباشرة، بل إن بعضها يحتاج إلى توافق إقليمي أيضا.
إن المستوى الذي وصلت إليه هذه العلاقة في العام 1991 إلى حد رعاية المصالح فقط لم يكن أبدا بمستوى التحديات التي كان الطرفان يواجهانها في المنطقة، بل إنها سبّبت حرجا لحلفاء البلدين المتخاصمين والذين تربطهم علاقات جيدة خارج إطار التخاصم، وخصوصا أن هذه القطيعة قد وصلت في أحيان مختلفة إلى أشبه ما يُمكن تسميته «العلاقات المجتزئة». فمصر لا يُضيرها أن تنسج علاقات محورية مع باكستان والصين والهند ودول القوقاز من دون أن تصلها بإيران، وتقوم الأخيرة بتمتين علاقاتها مع الحديقة الخلفية لمصر حيث السودان؛ مما سبّب خللا واضحا في العلاقة القائمة بين البلدين.
وربما أفهم الآن أن المصريين قد رُفِعَ الحرج عنهم بعد تسوية دول الخليج علاقتها مع إيران في النواحي الاقتصادية والسياسية حتى الأمنية، وأيضا بروز الكثير من نماذج التمايز في التوجهات السياسية بين دول المنطقة والولايات المتحدة في ملفات مختلفة كالعراق ولبنان وفلسطين، بل إن ذلك التمايز ربما انسحب أيضا على العلاقة الاستراتيجية القائمة بين واشنطن وتل أبيب بشأن خيارات المواجهة مع الجمهورية الإسلامية بعد صدور التقرير الاستخباراتي الأميركي. ولكن على رغم كل ذلك لم تستطع القاهرة أن تبذل مساعي ومبادرات أكثر من الاستحلاب. قد يكون أثمنها زيارة مساعد وزير الخارجية المصري حسين ضرار طهران قبل فترة.
إن الخطاب الذي ألقاه رئيس البرلمان الإيراني حداد عادل أمام جمع من أساتذة جامعة عين شمس وطلابها لم يكن ترفا عندما تحدث عن تلاحم الثنائية المصرية الإيرانية منذ عهود سحيقة والريادة المشتركة في المنطقة. فالتصاهر الثقافي والعقائدي ضارب بجذوره في أرض مصر وإيران. ولا أظنّ أحدا يستطيع أن يتجاوز التأصيل السياسي للعلاقات بين البلدين منذ معاهدة أرضروم بين الحكم القاجاري والعثماني في العام 1869. لذلك إن الأرضية لهذه العلاقة ليست طارئة أو ذات تاريخ ينضح بالدماء، بل بالعكس فقد كانت تاريخية العلاقة نوعية ومميزة، وبالتالي فهي قادرة على تأسيس مناخات منفتحة ومتواصلة.
إنني أعلم أن تطعيم العلاقات بين الدول بالشعارات لن يفيد أحدا ما لم تتحرّك المفاعيل الحقيقية لتلك العلاقة. لذلك إن الجميع يعلم أن الخلافات بين البلدين (مصر وإيران) واضحة فيما يتعلق بالتسويات السياسية في فلسطين، وأن القاهرة ملتزمة خط السلام وقبل ذلك ملتزمة تطبيق قرارات كامب ديفيد وإيران ترى أن التزاماتها السياسية والايديلوجية هي في دعم خط المواجهة والمقاومة.
وصحيح إن علاقات القاهرة متباينة مع طهران بالنسبة إلى الفرقاء اللبنانيين، وبشكل أكثر في العراق أيضا، ولكن ذلك لا يمنع أبدا من أن تسعى الدبلوماسيتان الإيرانية والمصرية نحو تحديد المساحات المشتركة أو التي يُمكن للطرفين أن يقدما فيها تنازلات متقاربة ومعقولة ويُمكن تعويضها بشكل سريع وفي أماكن أخرى من التعاون التجاري والأمني على أقل تقدير. فالإيرانيون باتت لديهم خبرات واسعة في الصناعة والثروات المائية والحيوانية ومجال الطاقة الأحفورية والبديلة وخصوصا في مجال الطاقة النووية التي يطمح المصريون إلى الحصول عليها أخيرا، والأكثر من ذلك أن يستفيد المصريون من موقع إيران الجغرافي الذي من شأنه أن يصلهم بوسط آسيا والشرق الأدنى، كما أنهم - أي: الإيرانيين - يمتلكون إلى حد ما مفاتيحَ مهمة في قضايا العراق وسورية ولبنان، وهي محطات خاصة للمصريين الذين توارثوا على قيادة العالم العربي قوميا. ثم إن وجود محطتين دينيتين مهمتين في البلدين وهما الأزهر الشريف والحوزة العلمية في مدينة قم المقدسة يُشكل مدخلا محوريا لضبط الانشطارات المذهبية، وبوصلة عاقلة للحركات الإسلامية ومراجعاتها الفكرية. لذلك الجميع يتطلع إلى أن يُشخِّص المسئولون في البلدين الظروف التي تمر بها المنطقة ويتجاوزا حالات التخاصم والتنادد التي ولّدتها ظروف خاصة انتهت مفاعليها على الأرض لأسباب متعددة.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 1977 - الأحد 03 فبراير 2008م الموافق 25 محرم 1429هـ