مع استمرار لوثات الـ «40 مليون دينار بحريني» التي لربما في حال تطبيقها على الشاكلة ذاتها المراد لها فستجعل من حال الغالبية المعدمة في مجتمعنا البحريني في مواجهة أزمة الغلاء أشبه ظاهرا بحال المجتمع العراقي إبان فترة «النفط مقابل الغذاء»!
ومع كل ذلك السوء للأسف أجزم أن هنالك أزمة ثقة بين المجتمع والدولة، وهنالك تصورا شعبيا يكاد يكون عاما عن أن هنالك الكثير من المسئولين وكبار المتنفذين والمتنفذين في الدولة ممن لا يعرفون للتخطيط الاستراتيجي معنى سوى ما يتعلق بجهود «استرداد الخردة» و «الربح أو الخسارة» من الشعب، ولا يفقهون من أدبيات التخطيط الاستراتيجي لمواجهة الأزمات الوطنية العامة سوى «نتغدى بهم قبلما يتعشون بنا» أو «نتعشى بهم قبلما يتريقون بنا» وفي رمضان وغيره من الأيام المستحب الصيام فيها «نتسحر بهم قبلما يتفطرون بنا»!
فما نود أن نشير له من خلال تناول هذا التصور الشعبي العام الذي لا يعرف الفروقات الطائفية والإثنية - والحمدلله على ذلك - على بساط الطرح إنما هو إننا نتفق مع الرأي الموقن بأن الغلاء والتضخم في حد ذاته لا يعدان أزمة في البلاد مقارنة بأزمة المجتمع مع الدولة، وأزمة الثقة الوطنية وأزمة بعض المسئولين والمتنفذين والمستنفذين في تعاملهم مع ظروف المواطن الباكي على أشلاء مواطنته!
وهنالك أيضا أزمة صحافة وبعض الصحافيين مع الـ «40 مليون دينار بحريني فقط لا غير». فإن كنا لا ننكر وجود تعاطٍ سلبي مع «معجزة» الـ40 مليون دينار وهو تعاطٍ يعكس بشفافية واضحة مدى التذمر والسأم الشعبي العام من سوء الأحوال المعيشية للمواطنين البحرينيين التي طالت كثيرا، ولا يمكن أن يمثل «فنتقا» سياسيا بكل حال من الأحوال وإلا لما وجد له هذا الرواج والتحبيذ والتعاطي الشعبي السريع الاشتعال إلى درجة جعلت أعمدة الفتنة الطائفية وكتّاب المنصات مضطرين لأن يأكلوا «تبنا أحمرَ» للمرة الألف في وقت قياسي عسى أن يحافظوا على صلاحية صدقيتهم المصطنعة وتغطية الرشوة العامة بأكثر من «برنوص» خدماتي!
ولكن في الجهة الأخرى من الأزمة الصحافية هنالك أحد الزملاء الأفاضل - هداه الله - ممن رضع من أثداء الصحافة حتى أصبح ضخما وكبيرا، وقد حاول أن يخرج عن المألوف فتهجّم على جميع منتقدي «معجزة الـ40 مليون دينار» ممن يتصيدون في الماء العكر ويتربصون بالحكومة - وقاها الله وإياهم - في جميع الأوقات، وممن يعدون حبات النوى وفلقها بعد كل رطبة جنية تأكلها الحكومة ليس لسبب سوى الإثارة الصحافية، فأكني بصاحبنا يمجّد أمر هذه المعجزة المليونية كما لو أن أمر دخولها هو دخول ألفية جديدة!
وذلك ليس عنه بجديد. فهو كعادته بعد حصوله على إحدى الجوائز - وفقه الله - ينطلق في موجة من التعميمات المثالية والتعميمات التصغيرية التي يلف بها رأس القارئ ووعيه كحجاب وعمامة أو قُلْ غمامة، ووجد نفسه قد بلغ من الكبر الصحافي عتيا واشتعل رأس عموده نورا وحكمة، فإذا به في مقام أولي الألباب من تكون آراؤهم عقائدَ، وهواجسهم الصحافية المتنوعة في مقام الرؤى المسيانية والقيامية التي لا حياد عنها. فقولهم هو القول الفصل، وفلسفتهم هي فلسفة الحياة والوجود، وصحافتهم هي خاتمة الصحافة وأمها ودرتها، بل إن صاحبنا للأسف وقع في أسوأ مكائد الذات - حرره الله منها - التي عادة ما يقع فيها الصحافيون بعد حفاوة التكريم والتعيين وكأنما نخشى عليه أن تصبح حالته المتمايزة أشبه ما تكون بحالة الواعظ «المودرن» والداعية «الإكزوتيك» الذي أثبت بجدارة أنه «يستاهل ساعة ألماص»!
وتفاعلا مع لوثة الـ40 مليون دينار فقط لا غير، فإن للحديث زاوية أخرى تتعلق بالأوضاع الرديئة لواقع السلطة التشريعية المنتخبة التي من سوء حظها وجدت نفسها أمام انضغاط معيشي وسياسي سيئ قلّ نظيره في تاريخ البحرين المعاصر، وأمام واقع مأسوي من فقر معيشي وفقر سياسي يعاني منه غالبية أفراد الشعب البحريني بمختلف طوائفه وإثنياته يصبح من العبث بمكان التعويل على أن الشعب البحريني سيفهم فلسفة العمل التشريعي الأصيل وسيروراته البطيئة والمتراكمة، أو سيعذر ممثليه وينتظر أمام إلحاح الحاجات المتزايدة إلى أن يتم تأسيس قواعد أصيلة وسليمة للعمل التشريعي من قبل نواب ممثلين للشعب على رغم أن هنالك عددا لا بأس به من النواب ممن لا يفقه الفرق بين العمل البلدي والعمل التشريعي والعمل التنفيذي، ولا يكاد يحدث لديه أي فرق بين مهمات السلطة واختصاصات السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية، ولا يعرف من هو العرّاب والمسئول الحقيقي عن الأربعين مليون دينار ألا وهو السلطة التنفيذية.
فيجد النائب بالتالي أن من الأنسب له أن يحترف عمل وكلاء التموين و «الكراشيه» أمام ما تحيط به من قيود دستورية ولوائحية محكمة ومهندسة في ليلة ليلاء لتعوق صلاحياته وسلطاته وأمامه زملائه ممن لا يكادون يحدثون فرقا بين تشريع وتنفيذ وتلفيق، وزد على نواب الحماقات غير المحسوبة نواب الإلهاء والإثارة المدسوسين خنجرا مسموما في كبد العمل البرلماني المنتخب!
فبالله عليكم ما الذي يدفع أحد النواب الأفاضل ممن «توهق» بالبرلمان والسياسة واضطر إلى أن يخضع لضغوط ترشيحه من قبل إحدى الجهات المتنفذة إلى أن يبلغ أفراد دائرته عن عزمه الالتقاء بهم لبحث السبل الأمثل لصرف الـ40 مليون دينار وكيفية توزيعها على احتياجات المواطنين، وكأنما هذه الـ40 مليون دينار قد أصبحت مضمونة في حسابه المصرفي؟
للأسف، لقد دأب بعض المسئولين المتنفذين على إحراج النواب والمماطلة في الاستجابة والتلبية لطلباتهم المشروعة. فهناك من ينكر حصوله على المعلومات على رغم أن مهمة جمع هذه المعلومات تقع تحت مسئولية مؤسسته، وهناك من المسئولين من يجمع إلى جانب الـ40 مليون دينار أربعين مليون تفسير وتأويل متفلسف وقياس وتفذلك «مقونن» و «مموسق»، ناهيك عن تواضع المبلغ المذل والمخزي للتعامل مع أزمة الغلاء التي لا يعلم لها من مستقر!
وعلى رغم أن هذه الأزمة هي أزمة شاملة تعم جميع المواطنين من فقراء معدمين وفقراء متسربين من الحلقة الوسطى وأثرياء وتجار، فإن الحكومة آثرت أن تتعامل بها بمنطق الصدقة و «الزكاة» المؤجلة والمشروطة، وكأنما بذلك تتعامل مع السلطة التشريعية المنتخبة على أنها تهديد مقبل، وأنها إنما تدفع بذلك إلى أن يكفر الجميع نوابا ومواطنين بـ «المشروع الإصلاحي» الذي لم يطفئ أوارهم ويهدئ روعهم!
الشعب لا يريد أن يكون مصيره كمصير الحشائش التي تموت عندما تتصارع الأفيال، والشعب ملّ «كلاما كالعسل وفعلا كالأسل» كما قالوا، وملّ وعودا فارغة تموت حال ولادتها، والشعب غير العزيز يرى في اليقظة سبع بقرات سمان يأكلن سبع بقرات عجاف، بدلا من «سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ» (يوسف: 43) كما رأى عزيز مصر في المنام!
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 1977 - الأحد 03 فبراير 2008م الموافق 25 محرم 1429هـ