العدد 1976 - السبت 02 فبراير 2008م الموافق 24 محرم 1429هـ

غزّة بين بوابة مصر والاحتلال

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

الغضب الذي انفجر في قطاع غزّة وأدّى إلى هدم أجزاء من جدار الحصار ترك تداعياته السياسية وآثاره النفسية على الجموع العربية والفلسطينية التي احتجت على العقاب الجماعي. سياسة التجويع التي ابتدعتها حكومة ايهود أولمرت شكّلت مناسبة لإعادة قراءة المواقف الدولية والعربية والفلسطينية وما يتفرّع منها من تلاوين تتصل بموضوع التفاوض وفكرة التوصّل إلى تعايش سلمي في منطقة تتعرّض لعاصفة تاريخية من البصرة إلى غزّة.

تحطيم أجزاء من جدار العزلة فتح أسوار فلسطين على رياح سياسية موسمية دفعت القوى المعنية والأطراف الفاعلة على الأرض إلى التعامل بجدية مع مسألة إنسانية لا يمكن القبول بها مهما تكن نتائجها الميدانية. فسياسة التجويع المنظم والمقصود غير مشروعة ويصعب تمريرها أو السكوت عنها لأسباب تتجاوز الدين والقومية باتجاه تأكيد الحق دفاعا عن الذات والنفس البشرية... وهي مبادئ تدافع عنها المواثيق الدولية وتضمنها معاهدات جنيف وحقوق الإنسان.

حصار غزّة مسألة أكبر من القطاع والضفة والضمير العربي؛ لأنّ الموضوع لا يُمكن التساهل معه لكونه يمس أبسط الحقوق التي تنصّ عليها العدالة الإنسانية وهي منع التجويع وقتل الناس قهرا عقابا على أفعال لم يرتكبوها. وهذا الأمر شكّل نقطة عبور للتدخلات الدولية والعربية في محاولة لكسر أسوار السجن بحثا عن ملاذ يضمن لقمة العيش. ولعب الموقف المصري دوره الميداني في توفير ذاك الممر الجغرافي لعبور الناس طلبا لحق مشروع تضمنه القوانين الدولية.

الكسر الجزئي للحصار فتح باب النقاش لمعالجة مسألة موضعية تتجاوز سقف السياسة. وأدّى النقاش إلى طرح أسئلة بشأن تأمين المسالك ومنع تكرار العقاب وضمان أمن الناس وحقهم في العيش الكريم ومن دون إذلال.

الأسئلة استدعت أجوبة في محاولة منها للرد على التحدّي. الجواب الأوّل قادته المجموعة العربية في الأمم المتحدة إذ قامت بتحريك الملف في مجلس الأمن وطالبت الدول الكبرى بإصدار بيان يستنكر ما جرى من حصار وتجويع لسكّان القطاع. والثاني دعت إليه جامعة الدول العربية فانعقد مجلس وزراء الخارجية في القاهرة وأصدر بيانا اشتمل على 11 بندا. والثالث اعتمدته مصر حين اتخذت قرارها الشعبي/ الرسمي وأقدمت على تسهيل عبور الجموع المحاصرة من قناة رفح والذهاب إلى العريش وغيرها لشراء البضائع والحاجات الضرورية والسلع المفقودة في القطاع.

خطوات ثلاث

التحرك في خطواته الثلاث انتج مجموعة سياسات وردود فعل دولية وعربية وفلسطينية. دوليا أقفلت الدول الكبرى (أميركا تحديدا) باب الحوار ومنعت صدور قرار عن مجلس الأمن من دون شروط سياسية. وأدّى إصرار واشنطن على تذييل البيان بتوقيعات تنصّ على اشتراطات إسرائيلية إلى تعطيل صدور بيان الاستنكار وترك مسألة الحصار مفتوحة على احتمالات غير واضحة المعالم. الدول الكبرى عارضت سياسة الحصار ولكنها عمدتْ إلى تبرير قرار حكومة أولمرت والدفاع عنه وتزيينه أمنيا. وبسبب الرؤية الأمنية ربطت الدول الكبرى فك الحصار بوقف إطلاق الصواريخ وغيرها من إملاءات لم تلقَ الترحيب العربي.

عربيا لم تنجح الجامعة التي توصّلت إلى صيغة بيان اشتمل على مبادئ عامّة في تحويل الأفكار إلى سياسة عملية. وأدّى افتقاد الآليات القادرة على كسر جدار العزل عن العالم إلى تعطيل إمكانات تطويع المعادلة التي اشترطتها تل أبيب في التعامل مع موضوع تجويع سكّان القطاع. وشكّلت المسافة بين الرؤية النظرية الصحيحة وتعقيدات الواقع مشكلة موضعية كان من الصعب تجاوزها من دون ضوء أخضر دولي يعطي إشارة الأمان لترتيب علاقات سوية ودائمة بين غزّة وعمقها العربي الإسلامي.

فلسطينيا فشلت اللقاءات بين الحكومتين (الضفة والقطاع) في صوغ بنود للتفاهم الثنائي ينظم عملية الإشراف على إدارة المعابر. فالمعابر التي نصت عليها اتفاقات سابقة وقعت في العام 2005 بين السلطة الفلسطينية (قبل انقسامها) وإدارة الاحتلال قبل أنْ تنسحب قوات تل أبيب من القطاع خضعت إلى اشتراطات تعطي «إسرائيل» حق المراقبة أو الإشراف حتى التدخل حين تجد ذريعة تبرر ذلك. هذه الاتفاقات سقطت ميدانيا ولم تسقط قانونيا وهذا ما جعل حكومة تل أبيب تتمسك بها نظريا لتبرير سياسة التجويع والعقاب الجماعي. العودة إلى اتفاقات 2005 مسألة باتت صعبة عمليا بعد التطورات الميدانية التي حصلت في القطاع منذ نحو سنة وأدّت إلى تغيير المعادلة المحلية بين فتح وحماس.

القطاع والاحتلال

مشكلة القطاع التي جاءت أساسا من الاحتلال وتفاقمت بسبب حصار غزّة منذ 23 يناير/ كانون الثاني الماضي تحوّلت ميدانيا إلى نقطة تجاذب فلسطينية بعد التطورات التي أفرزها الخلاف بين حماس وفتح. فالخلاف الذي امتدّ بين الفصيلين ساهم في منع القاهرة من التوصّل إلى حل سياسي بعد استقبالها لوفدين من الضفة والقطاع. السلطة طالبت بالإشراف المباشر على المعابر من خلال تنظيم اتفاق مع مصر يدير الحركة من وإلى القطاع. حكومة حماس رفضت التجاوب مع الاقتراح وأكّدت تمسكها بمسئولية الإشراف على المعابر بإدارة ثلاثية مصرية وفتحاوية وحماسية. وفكرة حماس انطلقت من المتغيرات الميدانية التي حصلت في القطاع وأدّت إلى كسر المعادلة السابقة بما فيها تلك الاتفاقات التي تم توقيعها في العام 2005.

اللقاءات الثلاثية المصرية والفلسطينية الفلسطينية التي جرت في القاهرة انتهت إلى فشل سياسي بسبب تمسك سلطة محمود عباس بإدارتها للمعابر بالتفاهم مع مصر مقابل تمسك سلطة إسماعيل هنية بحق الإشراف استنادا إلى المتغيرات التي حصلت قبل نحو سنة.

هذا الفشل الفلسطيني (الثنائي) أعاد إنتاج الدور المصري الخاص في هذه المسألة التي تعتبر مفصلية نظرا لارتباطها الجغرافي/ التاريخي/ التقليدي مع القاهرة. فالواقع يفرض شروطه في النهاية. وأساس الموقع المصري المميز في هذا الإطار ينطلق من قاعدة سياسية بسيطة؛ وهي رفض تجويع الناس ومعاقبة سكّان القطاع جماعيا. وتشكّل القاعدة المذكورة المحكومة بالجغرافيا (المجال الحيوي) نقطة عبور سياسية لعودة مصر إلى لعب دورها التقليدي في إدارة شئون القطاع بعد رحيل الاحتلال. وهذا الدور مشروع دوليا ومقبول عربيا ويشكّل في الآنَ حاجة فلسطينية لا يمكن إنكارها لأسباب ميدانية. فالقطاع يطل على بوابات ثلاث (البحر وفلسطين وسيناء). وبما أنّ سياسة التجويع مرفوضة مهما كلف الأمر يصبح التعامل الموضوعي هو الجواب الميداني لكسر الحصار جزئيا وفتح ثغرة في جدار الاحتلال.

عودة مصر إلى حدود القطاع والإشراف المباشرعلى إدارة معابره وتنظيم الدخول والخروج إليه تشكّل بداية عملية تؤكّد أهمية دور الجغرافيا وتأثيرها الميداني في صوغ السياسة أو تعديل القرارات والقوانين والاتفاقات. والمبادرة المصرية التي تمثلت في توجيهات رسمية مباشرة أعطت إشارة البدء في تجاوز سقف اتفاقات وقعت في العام 2005 في ظل الاحتلال... وربما تكون تلك المبادرة بداية عملية تمهد الطريق لإعادة تنشيط دور القاهرة في رعاية القطاع سياسيا وإدارته مدنيا، بعيدا عن تل أبيب واشتراطاتها الأمنية.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1976 - السبت 02 فبراير 2008م الموافق 24 محرم 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً