العدد 1975 - الجمعة 01 فبراير 2008م الموافق 23 محرم 1429هـ

وداعا يا حكيم... ولكن! (1)

منى عباس فضل comments [at] alwasatnews.com

كاتبة بحرينية

في متون الصحافة العربية تصدّر الأخبارَ والتحليلاتِ نبأ وفاة مؤسس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين الحكيم جورج حبش في 26 يناير/ كانون الثاني 2008. وفي صبيحة يوم صقيع بارد وحزين ولدت لحظة الفقد في غير مكانها وزمانها. في تالي الأيام نشرت صحيفة «العرب اليوم» الأردنية رسما لكاريكاتير يجمع الحكيم جورج حبش و «حنظلة». ترى ما الذي أيقظ «حنظلة» في ذلك الصباح؟

بدا «حنظلة» في الرسم كعادته مديرا ظهره للأنظمة العربية، تلحف بالحزن والسواد منتصب القامة واضعا يده اليمنى على عينيه يمسح دمعة احتبست كما الغيوم السوداء التي لفت المدينة من حولنا. «حنظلة» الذي نادرا ما كان يبكي تعلو رأسه في مساحة يغطيها السواد عبارة كان لها وقع الخنجر في صدرونا: «وداعا يا حكيم». أما «الحكيم» بملامح وجه الحزين ونظرته الثاقبة البعيدة المدى لتحقيق حلم الوحدة العربية وحماية ثوابت المقاومة ونهج الكفاح، كان يودعنا تاركا أمانة أمتنا العربية الضائعة على الأكتاف وفي الضمائر. كان صباحا حزينا، والمساء كان مثله كئيبا، وأصبح نهار مدينة عمّان يوم تشييع جثمانه يوما فاجعا في قلوب رفاقه ورفيقاته وأهله وأحبابه من أرض فلسطين المحتلة والشتات والأردن والعراق المحتل، سورية، لبنان، مصر، من كل بلاد المغرب والبحرين وبقية دول الخليج، من كل مكان في العالم بمختلف الأجناس والأديان والانتماءات والمذاهب، الجميع منهم حضروا ليودعوا القائد المناضل والشعلة المضيئة في قلوب الأحرار المؤمنين بحرية الشعوب ووحدتها.

تحرك الموكب بجثمان «الحكيم» في شوارع عمّان (عاصمة الأردن)، باتجاه كنيسة الروم الأرثوذكس في الصويفية. علت الرايات الحمر التي توسطتها شعارات الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وحزب الوحدة الشعبية الديمقراطي الأردني. وبمحاذاة من علوها رفرف العلم الفلسطيني الصامد باعتزاز، العلم الذي لف به نعش الحكيم قائدا مناضلا جسورا من قادة حركة التحرر والثورة العربية التي ناضلت وثارت على الظلم والاستبداد والاستعمار. تعالت أصوات الحناجر بهتافات استصرخت الضمير الإنساني بإيقاع حزين وغاضب لم تتوقف إلا مع رحيل آخر شعاعات الغروب في مقبرة «سحاب» التي ووري فيها جسد «الحكيم» بعيدا عن مسقط رأسه في مدينة اللد بفلسطين المحتلة. هكذا تتجدد أحزان الفلسطينيين في الشتات مع حنين عودتهم للأرض ورحيل الشهداء والمناضلين. هكذا تفتح الجروح على مصراعيها؛ لأن النزف لايزال مستمرا وفلسطين لاتزال تقبع تحت نيران الاحتلال الصهيوني.

«الحكيم» ضميرنا العربي

رفع النعش عاليا على أكتاف قوات بدر التابعة لمنظمة التحرير. لمَ لا وهو المفكر والقائد الرمز السياسي الذي تحرر من أدران الزمن العربي البائس والخنوع والذل اللذين ارتضاهما البعض، ومن النفاق والتهافت على فتات الموائد؟ لم يعد «الحكيم» ملكا خاصا لأحد. صار صوت الضمير العربي. والجماهير أبت إلا أن تقييم له مراسيم وداع وتشييع ودفن وعزاء تليق بالمناضلين الأحرار المؤمنين بالوطن لا بالاستعمار. فـ «الحكيم» ليس كأي قائد كان. إنه ضميرنا الحي. إنه الحق المتغلغل في أعماق ضمائر شعوب أمتنا العربية.

«لعيونك يا أبوعلي، جايالك أغلى الأحباب، لعيونك يا وديع حداد ولعيونك يا غسان...»، وتستمر الهتافات وترتفع المناداة على وقع الأغاني الوطنية الحزينة التي اختلطت بدقات أجراس الكنيسة. يا له من وداع مهيب اقشعرت له أبادننا. كنت أختلس النظر إلى من حولي. لم يخجل أي منا من ذرف الدموع ونحن نستسلم لصرخات الحناجر والهتافات. وقتها كنا نبكي زمننا العربي الذي يرحل فيه أصدق الرجال وأصلبهم عن عالم الحياة من دون أن يحقق حلمه بالعيش في وطن حر بكرامة وعزة لا وجود للمستعمر فيه من مكان ولا تسوده حروب الغاب والغزوات ولا النهب والإذلال بوجود القواعد العسكرية.

الوطن هو الحضن والمرجِع والحلم

وصل الموكب إلى باحة الكنيسة، واستقبلته هتافات الجموع المكتظة التي انتشرت على سور الكنيسة وبين ردهاتها وعند أبوابها. الكل حزين يرتدي السواد ويلتحف بالحطة الفلسطينية. فالوطن في آخر المطاف يبقى الحضن والمرجِع والحلم. اختلطت الأصوات المجلجلة على وقع تصفيق القادمين بالجثمان مع المنتظرين وتوحدت الهتافات «جايلك د.حبش، يا رفيق رد علي، نصون الوحدة الوطنية... بالروح بالدم نفديك يا حبيب». وتتعالى الأصوات مرة أخرى بكثافة وقوة اهتزت على وقع صداها الكنيسة. «لاح العلم الأحمر لاح... لاح حبيب الثورة لاح... من رام الله للشياح... يا بيه بيه بيه... يا رافعين الراية: (الله - فلسطين - البلاد العربية)، يا رفيق رد علي، حبيب الجبهة الشعبية... حكيم الأمة العربية... عميد الثورة العربية... هيك علمنا الحكيم...ع نهج الثورة السليم... يا حكيم افتح الباب...»!

حقا، إنها لحظات تاريخية يستحيل أن تغادرنا ما حيينا. لحظات لا تنتزع من الذاكرة. فحينما يكون حبش مسجيا في نعشه، يكون هو ذاته وفي اللحظة نفسها محور التقائنا وجمع شملنا ورمز وحدتنا وعزتنا وصلابتنا وإخلاصنا وضميرنا وأخلاقنا. وقتها من الممكن أن نتأمل في تحقيق حلم الوحدة العربية وخروجنا عربا من عصر الظلام الذي حل بنا. حينها من الممكن أن نكمل معه الحلم الذي ننشده والذي لن يتحقق إلا بمقاومة المناضلين لا عند أحضان الاستعمار ولا في مجالس الظلم والاستبداد.

على روح حبش صلينا. بعضنا لاذ بالصمت والآخر رفع يديه جهرا بالشهادة لله وتلاوة سور من القرآن الكريم، وآخرون صلوا برسم علامات الصليب. صلى الجميع بسلام وإنصات واحترام لتراتيل المطران وصلواته على روح «الحكيم»، بكل لغات العالم، بكل أديانه ومذاهبه وبكل ما تحمله الكلمات من شحنات التسامح والمحبة ومعاني الحرية والرمزية والقيم الأخلاقية. استحضرنا سيرة «الحكيم» صلينا وصلى الجميع معنا، وقبيل انتهاء الصلوات إذا بأصوات الحناجر ترتفع ثانية، صداها هذه المرة كان أقوى بين جدران الكنسية وإذا بصرخة ليلى خالد التي امتزجت بوجع الفقد والفراق، وجع تجربة نضالية وهم وهاجس حي يسكن في الضمير، وجع مؤلم حينما يكون الرفيق هو الأب والأم والحبيب والوطن والأرض المفقودة والحلم. صرخت ودقت النعش بقوة: «ارتاح يا حكيم... ارتاح يا حكيم»! تصلب الجميع والرايات والعلم الفلسطيني لايزال خفاقا فوق رؤوسنا مرفوعا بأذرع الشباب الذين ضجت بهم القاعة من الأعلى والأسفل في كل زاوية من زوايا الكنيسة التي توسط قاعتها النعش. العيون تدمع والقلوب ملتاعة بصمت، والوجع يتعاظم كلما حضرت المأساة الفلسطينية.

إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"

العدد 1975 - الجمعة 01 فبراير 2008م الموافق 23 محرم 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً