اتخذا زاوية ضيّقة في المقهى، يناغيها بكلمات دافئة... لا أسمعهما إلاّ أنّ وهج الكلمات كاد يحرقني... يبدو أنهما في مقتبل العمر، ملامحهما عشرينية. بعد أن أحضرت لهما النادلة عشاءهما ووضعته على الطاولة المستطيلة بين الاثنين. طلبتْ هي منه أن يدني الطاولة جنبها لكي تتناول المكرونة المرشوشة بالـ”سوست”، وطائفة من الكريمات والمتبلات الأخرى.

في فحولة شرقية، قبض على الطاولة من جنبيها دافعا إيّاها أمامها. تبعثرت الأواني والأقانين، أعاد ترتيبها بخفة. بدأ كلّ منهما يتناول طعامه على حدة. دار حديث بينهما حول المستقبل. لديهم قدرة الحديث باللغة العربية، إلاّ أنهما يطعمانها بمفردات إنجليزية. يبدو لي إنهما من خريجي المدارس الخاصة. هيئاتهما تدل على ذلك (أيضا). الشاب يرتدي بنطالا مفتوقا جهة الركبة، والفتاة تلبس بنطالا يكاد أنْ ينزلق من جنبيها.

مأساة بعض شبابنا تكمن في النظرة الأولى. فالنظرة الأولى هي أنّ الاثنين يلبسان شيئا إفرنجيا، من الغرب الكافر، فإنهما أقرب إليه، فكرا وممارسة وأسلوب حياة... الاثنان قطعَا حبل سرهما مع الشرق, وحلّقا بعيدا في الغرب، حتى كاد التحليق ينسيهما إنهما في بلد عربي مسلم، ومجتمع شرقي محافظ!

بعد اليوم الثالث، هيئتهما لم تتغير... وأنا أجلس بالزاوية المقابلة لزاويتهما مقلّبا أوراق الشقاء بين يدي. اتضح لي بأن الاثنين ينتميانِ إلى أسرتينِ عريقتينِ، وإنهما ملتزمان بجميع المفاهيم والأعراف التي تحكم المجتمع... إلاّ أنهما يمارسان، الآنَ، خلوة مع ذاتيهما، بعيدا عن رقابة العسس والعواذل، وسلاسل التحفظات الاجتماعية الأخرى.

إذا إنهما ينتميانِ إلى العرق والدين والبيئة الاجتماعية ذاتها، التي ينتمي لها قطاع عريض من شبابنا وشاباتنا ممن يلبسون الغترة والعقال والعباءة.

ولكن يبدو أنّ العلامة المسجلة لمثل تلك الكانتونات هو الزي الإفرنجي؛ وهذا ما لا يطيق لبسه إلاّ المودرن، الكيوت، الكول...إلخ، هكذا يقولون!

علّمتني الحياة أنّ أشكال الناس ليست ذات أهمية بقدر ما يحملونه من جواهر العقل وعظيم الأخلاق والمعاني السامية. إلا أنّ للمظهر دلالة أيضا على الجوهر، وإنْ كانت بسيطة، هذا واقع اجتماعي، وإنْ كان غير صحيح بشكل مطلق!

إذا، هل صحيح إنّ المتدين، بلحية أو عمامة، هو مخلص دينه لله؛ أي لا يرائي فيه أحدا ولا مصلحة خاصة له أو لحزبه؟! عن نفسي أشك في ذلك؟ فليس كلّ مَنْ اعتمر عمامة أو أطلق لحيته هو مخلص دينه لله. حتى وإنْ قال بلسانه ذلك!

إلا أنّ الصحيح أيضا أنّ المظهر له دلالة عميقة، على الأقل لدى عامّة الناس، على جوهر الشخص. وعلى ذلك ماذا يضير البعض لبس الغترة والعقال والعباءة، على رغم أنني مؤمن بأنّ اللباس هو من العادات والتقاليد العربية الأصيلة إلا أنّ ذلك لا يعني عدم تطوير الأحاسيس والمشاعر بين المرأة والرجل إلاّ إذا كان لباسهما إفرنجيا... فالنبي (ص) كان حليما رحيما بأزواجه (ر)، ولم ينه النبي (ص) أحدا عن أنْ يكون حانيا على زوجه أو بارا بأبويه أو عاطفا على أولاده.

مأساتنا أننا نقيم صلة غير مقطوعة بين المظاهر والجواهر في جميع الحالات... وأعتقد أن هذا خطأ وكارثة عظيمة. ومأساتنا أيضا أننا نربط الغترة والعقال والعباءة بالتخلّف والظلامية والعودة إلى التراث غير المتمدين، وهذا خطأ أيضا... فمن الممكن أنْ يكون مَنْ يلبس الغترة والعقال والعباءة أكثر تمدنا ممن يلبس البنطال والعكس صحيح. فلا رابط بين المظهر والجوهر إلاّ بالنسبة للسذج! وكفانا الله شر الافتتان بالغرب حد الجنون وشر التمسك بأفكار الماضي المجنونة!