أعلنت في جاكرتا الأحد الماضي وفاة الرئيس سوهارتو، الذي حكم إندونيسيا بيد من حديد لثلاثة عقود.
الخبر لم يكن مفاجئا لأحد. فـ «الحاج محمد سوهارتو» أدخل المستشفى في 4 يناير/ كانون الثاني الماضي بعد تدهور صحته؛ لما يعانيه من مشكلات في القلب والجهاز الهضمي والكليتين، كما بلغ من العمر عتيا (86 عاما)، حتى تأثرت قواه العقلية ودخل مرحلة الخرف؛ ما دفع المحكمة إلى إيقاف محاكمته.
سوهارتو جاء إلى الحكم بانقلاب عسكري على الرئيس أحمد سوكارنو، الذي عرفه الوطن العربي واحدا من أقطاب حركة عدم الانحياز، إلى جانب جوزيف بروز تيتو وجواهر لال نهرو وجمال عبدالناصر، في عزّ انبعاث حركات التحرر الوطني للتخلص من براثن الاستعمار في الخمسينيات والستينيات.
إن فترة 32 عاما لا يمكن إسقاطها من الذاكرة بسهولة. فلذلك تم تشييع جنازته بمراسمَ شعبيةٍ وعسكريةٍ شاركت فيها قوات من الشرطة والمشاة وسلاح الجو والبحرية، بعد أن لُفّ النعش بالعلم الإندونيسي وغُطِّي بالياسمين والورود. فالرجل المسجى في النعش كان جنرالا حكم الأرخبيل المكوّن من أكثر من 17 ألف جزيرة. ويختلف الإندونيسيون اليوم في هذه الحقبة، وهو ما عبّر عنه الرئيس سوسيلو يودويونو بقوله: «يجب الإقرار بأن المرحوم قدم الكثير من الخدمات إلى الأمة والدولة، ولكن علينا أيضا أن نعترف بأنه بصفته إنسانا وقائدا لم يكن خاليا من العيوب».
هذه العيوب التي لمّح إليها يودويونو، ليست عيوبا عابرة وإنما كارثة إنسانية. فانقلابه العسكري العام 1965 - الذي أيدته الولايات المتحدة وشجّعته عبر الاستثمارات الأجنبية الموجهة - كان انقلابا دمويا تسبّب بمقتل نحو مليون شخص من المعارضين، وسحق الحركة الشيوعية، كما قمعت قواته بوحشيةٍ النزعات الاستقلالية في أقاليم بابوا وأتشيه وتيمور الشرقية؛ مما دفعت إندونيسيا ثمنه لاحقا في حركات الانفصال، التي تفجّرت في أعقاب إسقاط الدكتاتور في الاحتجاجات الشعبية العام 1998.
بعد السقوط، بدأ عمل القضاء، ووُجّهت إليه تهم باختلاس مبلغ 570 مليون دولار لا غير من مال الشعب الإندونيسي، قابلها بالإنكار الكامل، بل طالب بتعليق محاكمته بتهمة اختلاس الأموال العامة في العام 2000، بدعوى أن صحته لا تسمح له بالكلام!
ولم يكن الاختلاس التهمة الوحيدة، بل هناك تهم أكبر بإزهاق أرواح البشر خلال فترة حكمه الطويلة، تتولاها جمعيات حقوق الانسان ومنظمات الأمم المتحدة، فضلا عن أهالي الضحايا، من زوجات ترملن وأطفال تيتّموا، وعوائل تفكّكت وافتقرت، على حين جمعت عائلته ثروة تقدر بين 15 و35 مليار دولار، حتى اعتبر أكثر الرؤساء فسادا في التاريخ المعاصر. بل إن تقديرات البنك الدولي تشير إلى أن سوهارتو اختلس نحو 3.1 في المئة من الناتج المحلي العام في عهده!
يوم الإثنين الماضي، نقلت طائرة عسكرية من طراز «هيركوليس» جثمان الجنرال، ثم توجّه الموكب إلى بلدة ماتيسي الريفية، ليدفن في ضريح كبير من الرخام، بعد أن أغرق تابوته بطنّين من الياسمين، ومئة كيلوغرام من الورود الحمراء. حتى الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون بعث رسالة تعزية إلى الحكومة والشعب، على حين نبتت الأعشاب على قبور ضحاياه، وجفّت دموع البواكي في المحاجر منذ عقود.
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1974 - الخميس 31 يناير 2008م الموافق 22 محرم 1429هـ