تختلف كتابات المفكرالإسلامي عن التنظيمات الإسلامية. فالمفكّر يمزج بين علومه وأهداف التنظيم ويقدّم أطروحاته السياسية بشكل تحليلي ومنهجي، بينما أفكارالتنظيمات تكون أكثرمباشرة ووضوحا وهي أقرب إلى البرنامج العملي المختصر في نقاط محددة. ولابدّ من ملاحظة هذا الفرز بين كتابات المفكّر وأفكارالتنظيم حتى تنجلي صورالمواقف وألوانها.
كذلك تختلف آراء التنظيمات الإسلامية وتفترق على غير محور، ولا تقتصرالاختلافات على تصوّر المسائل بل في تحليلها وتحديد معالجاتها أيضا، وتصل الخلافات أحيانا إلى حد التناقض في منهج المعرفة ومداخل قراءة المشكلات وأساليب حلها وطرق تذليلها. ولا يقتصرالاختلاف على الأسلوب فقط بل يطال جوهر القضايا كالديمقراطية والحوار مع الآخر والاعتراف به والائتلاف الحزبي مع أحزاب ليست إسلامية ودورالبرلمان والتشريعات الرسمية وغيرها من النقاط الحسّاسة التي تغطي هموم المواطن ومتطلباته.
يمكن التمييزبين خطين إسلاميين كبيرين يتنافسان على تأكيد شرعية التمثيل ومشروعية الفكر والمنهج وهما: تيارات الإخوان المسلمين التي تمثل التوجّه العقلاني والمعتدل والواقعي، وتيارات الجماعات الإسلامية ومنظمات الجهاد، التي خرجت إلى الساحة السياسية في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، وهي ترفض الأسلوب السلمي وترجح الجهاد وقتال السلطة وتخون «الإخوان» بسبب تساهلهم ومرونتهم وقبولهم بمبدأ التفاوض مع السلطة والتعاون معها.
إذا قمنا بجردة سريعة لمنشورات تيارات الجماعات والجهاد نلاحظ أنّ معظم المقالات والبيانات والتصريحات المنشورة تركز على مهاجمة سلوك الإخوان وفكرهم أكثر من تركيزها على نقد السلطات ومهاجمتها. بل نجد كثيرا من النقد الجارح الممزوج بالشماتة والسخرية من مواقف الإخوان ومراهناتهم على السلطات وتعاونهم معها ومجاراة الحكومات في نقدها للعنف والتطرّف والإرهاب. وكثيرا ما تستعين جماعات الجهاد بمواقف الحكومة المصرية (رفضها إعطاء تصريح لحزب إسلامي)، وتجربة الجزائر (الانقلاب على الانتخابات)، إلى مواقف السلطات وسلبيتها مع الإخوان وتستخدمها ذريعة تعمل لمصلحة استراتيجية الجهاد وفي الآنَ نفسه تستغلها لحث الإخوان والضغط عليهم نفسيا للإقلاع عن الأسلوب السلمي الديمقراطي واللجوء إلى السلاح كلغة وحيدة في «السياسة الشرعية» الواجب اتباعها في مخاطبة الحكومات. وهكذا تصبح حركة الإخوان «رهينة المحبسين» فهي مطاردة من السلطات بذريعة كثرة إسلاميتها، وملاحقة من تنظيمات الجهاد والجماعات بذريعة قلة إسلاميتها.
أهم مفارقة يمكن ملاحظتها بين توجّه الإخوان وتوجّه حركات الجهاد والجماعات أنّ الأولى علنية تتبع أسلوب المكاشفة والمصارحة وتعتبر نفسها مسئولة عن أعمالها وسياساتها وهي تدين تصرفات غيرها؛ لأنها لا تتفق معها. بينما الثانية سرية وغيرعلنية على رغم صراحة أفكارها ووضوح مواقفها، إذ إنّ البيانات والتصريحات الصادرة عن الجماعات والجهاد سرية وأسماء قياداتهم مستعارة وعناوينهم مجهولة ومراكزهم غير معروفة.
لعلّ اختلاف أسلوب عمل كلّ فريق يفسّراختلاف تفكيرومنهاج عمل كلّ طرف. فحركة الإخوان مسئولة عن كلّ كلمة لذلك تزنها قبل أنْ تقولها، بينما لجوء حركات الجهاد والجماعات الإسلامية إلى الاستعارة وسرية العناوين والأسماء يترك مساحة أوسع لقول كلّ الأشياء؛ لأنّ المسئولية ستقع في النهاية على مجهول أو مجهولين. فمن يعيش في عالم من السرية المحكم إلى درجة الانغلاق تصبح الأفكار محكومة بذاك العالم الداخلي المغلق على نفسه وغيره، وتصبح لغة المخاطبة محصورة في «مجتمع مغلق» يخاطب نفسه ولا يكترث كثيرا لوقع الكلمة ومسئوليتها وتأثيرها في جيل أو أجيال. فأسلوب الإخوان سلميّ وتربويّ طويل النفس بينما أساليب الجماعات وحركات الجهاد انقلابية وتعبوية ودعاوية تعتمد على تواصل التضحية وضمير الأمّة من دون اكتراث للمكاسب الراهنة والمؤقتة. ولعلّ الاختلافات المذكورة توضح تلاوين الصورة السياسية للمفكّرين وقيادات الإسلاميين خصوصا من مسائل العنف والديمقراطية والتعاطي مع الآخر المختلف.
التدين والسياسة
يرى رئيس «الجبهة الإسلامية القومية» حسن الترابي في مقال له نشرته مجلة «الإنسان» أنّ التدين أصبح «نسبة إلى الإسلام لاإيمانا بالدين. أصبح الفقه محفوظات من الآثار ثم أصبحت الأمّة تاريخا» (ص 13). ويقترح الترابي حتى يعود الإسلام إلى لعب دوره التاريخي اعتماد الخطوات الآتية: إحياء التوحيد، تطوير الاقتصاد، بعث حياة اجتماعية لا تقوم على العصبية، خروج المرأة من عزلتها، تحديث العلم وتوحيده، تجديد الفقه، اعتماد الشورى والرأي، واختيارالحاكم الصحيح، وبناء علاقات دولية قانونية.
يطلق الترابي على تصوّره تسمية «النظام المركّب» إذ لابدّ «للحركات الإسلامية اليوم أنْ تبدّل هذه الأصول وتعود مرة أخرى لقرارالشورى الذي يسمّى الإجماع». ويُطالب المسلمين أنْ «يتصلوا ببعضهم عبر العالم قاطبة»؛ لأنهم «إخوان في الأمّة». كذلك يُطالب «الاتصال بالغرب عبرالحواروالدعوة قصد هدايتهم». ويقترح أيضا تقديم نموذج للنظام «العالمي العادل»؛لأنّ نظام الأمم المتحدة «مؤسس على غيرالعدل ولا يراعيه، وهو مخالف حتى للنظم الديمقراطية الغربية». ويرى الترابي أنّ «البرلمان في أوروبا أقوى من السلطة التنفيذية، لكنّ مجلس الأمن أقوى من البرلمان العالمي بما فيه الدول العظمى».
لا ينكر الترابي الشورى والرأي والاختيار فهي واردة لكنها تأتي بعد التوحيد والاقتصاد والتنظيم الاجتماعي وحقوق المرأة والعلوم والفقه، فبرنامج الأولويات تحدده في النهاية الحاجات وشروط المكان والزمان. (مجلة الإنسان، العدد التاسع، السنة الثانية، ديسمبر/ كانون الأوّل 1992. مقال «العمل الإسلامي المعاصر: نظرات وعبر»).
في كتابهما عن «حقوق الإنسان في الإسلام» يشرح إبراهيم مدكور وعدنان الخطيب وجهة نظرهما بشأن نظام الحكم في الإسلام فيذكرا أنّ «لاشك فيه أنّ الإسلام لم يأت بنظام معيّن من أنظمة الحكم وإنما وضع مبادئ عامّة تصلح لكلّ زمان ومكان، كالشورى، والعدالة، والحرية، والمساواة، وفي عمومها ما أكسبها مرونة تفسح المجال للتطوّروالتجديد». ويحدد الباحثان مصادرالتشريع في الإسلام وهي كما هو معروف، القرآن «وهو المصدر التشريعي الأوّل في الإسلام، يُخاطب العامّة، ولايدخل في التفاصيل والجزئيات»، وتشريع السنة «وهو المصدر الثاني، ينصب على أحداث لها ظروفها الخاصة، ولا تحول دون مواجهة أحداث أخرى في ضوء ظروف جديدة». ويؤكدان أنّ الإسلام لم يعرف مبدأ فصل السطات «وكثيرا ما اجتمعت هذه السلطات في يد واحدة، وعند تعددها قد لا تلتزم بما رأته سلطة أخرى». وبعد اتساع رقعة الإسلام «تكونت مدارس تشريعية متعددة، وحاول الفقهاء والمجتهدون أنْ يضطلعوا بالعبء وأنْ يسدوا الفراغ». وهكذا «لم يقف التشريع الإسلامي عند النصوص وحدَها، بل كان للرأي فيه مجال». وينتهي الباحثان إلى اقتراح شرعة لحقوق الإنسان انطلاقا من فكرتهما التي تقول إنّ نظام الحكم في الإسلام «لم يرسم له نظام معيّن وأفسح نسبة المجال للاجتهاد واختيار الملائم، على شريطة أنْ يقوم الحكم أساسا على الشورى، والعدالة، والحرية، والمساواة». (دار طلاس، دمشق، الطبعة الأولى 1992، ص 38 -44).
وبعد أن يضعا مسودة دستورمقترح لحقوق الإنسان يؤكدان «أنّ أشد النظم المعاصرة قربا من المبادئ التي جاء بها الإسلام في الشورى والصالح العام هو نظام الحكم الديمقراطي»، ويطلبان الأخذ بها خصوصا تلك «التي تتفق والمبادئ المقررة في الإسلام مع اجتناب عيوبها التي تخالف المبادئ الإسلامية». (إبراهيم مدكور وعدنان الخطيب، حقوق الإنسان في الإسلام، دار طلاس، دمشق، الطبعة الأولى 1992، صفحة 84).
إذا كان راشد الغنوشي وحسن الترابي والسيدمحمد حسين فضل الله وغيرهم من المفكرين الإسلاميين يؤكّدون مسائل الشورى والرأي والاختيار مع وجود اختلاف بينهم على استخدام المفرد أو على تفسير المصطلح، نرى هناك من يقول بالشورى لكنه يشك بالديمقراطية وصحة خيارها بسبب خللها التنظيمي والتمثيلي. فالأستاذ في كلية الحقوق في الجامعة اللبنانية محمد طي قرأ صلاحيات الحاكم في العصر الحديث، وقارنها بصلاحيات الحاكم في الإسلام بأسلوب مخالف للرأي المتداول حين وجد أنّ «الأديان السماوية وفي مقدّمها الدين الإسلامي قضت ومنذ البدء على الحاكم أنْ يحكم بما أنزل الله». فالحاكم ليس مطلق الصلاحية وعليه التزامات تجاه الشريعة والناس «حتى يستطيع بالمقابل أنْ يُطلب من الناس طاعتهم ومؤازرتهم في تحقيق خططه». (مجلة «العرفان» تشرين الثاني/ كانون الأول 1994).
انطلاقا من المبدأ المذكور يأخذ الباحث بنقد ثغرات النظام البرلماني وعدم صلاحياته التمثيلية؛ لأنّ البرلمان «ليس هو الواضع الحقيقي للتشريعات» لذلك يلجأ أحيانا إلى «منح الحكومة صلاحية اتخاذ المراسيم الاشتراعية» لأن البرلمان «يتلهى بالنقاشات والمزايدات لإرضاء ناخبيه، فيما الحكومة بحاجة إلى بت المسائل بسرعة نظرا لسرعة وتائرالتطوّر».
يوافق الباحث الحقوقي على أنّ مسألة الانتخاب «إنجازعظيم في القوانين الوضعية» غيرأنها لا تكشف «عن إرادة الشعب بكامله ولا حتى بأكثريته» بسبب عدم مشاركة جميع المسجلين في الاقتراع، ولأنّ البرلمان حين يصوّت «لا يصوّت بوعي وحرية كاملين» بسبب انتماء الأعضاء للأحزاب أو «أنّ أكثريته تمثل في الحكومة وتأتمر بأوامرها»، ولأنّ التصويت واختيار المرشحين يتأثر بعاملين «الأيديولوجية والقيم من جهة وبقوى الضغط القائمة في المجتمع من جهة أخرى» ويبقى المحروم «قابعا في محيطه الضيق مهما تكن كفاءته وقدراته القيادية والتمثيلية». والنتيجة برأي الحقوقي اللبناني «أنّ الشعب لا يمكن أنْ يحكم أو يقررعلى الأقل في كلّ بلدان العالم اليوم».
لذلك يقترح أنْ يثقف الشعب «بالثقافة الإسلامية» حتى تتفق خياراته « مع ما يقرره الشرع الحنيف». وُيطالب بأنْ يختار المسلمون «لأنفسهم إماما», على أنْ تختارالإمام «مجموعات العلماء والمكلفين بالإشراف على الترشيح وقبول ترشيحات من تتوافر فيهم الشروط التي حددها الإمام». (العرفان، نوفمبر/ ديسمبر، 1994).
وهكذا بعد أن ميّز الأستاذ في كلية الحقوق بين صلاحيات السلطة الاشتراعية (البرلمان) وصلاحيات السلطة التنفيذية (الحكومة) اختصرالاقتراع على اختيار هيئة من العلماء تقوم بانتخاب الإمام صاحب الصلاحيات الواسعة الملزمة بالشورى والشرع؛ لأنّ السلطة في الإسلام تعود برأيه إلى الله وهو الذي «يمنحها للحاكم مقيّدة بالأحكام التي وضعها كأصول وأحيانا كتفاصيل»، ولا يخشى من الشطط «مادام العلم والعدالة متوافرين لدى الحاكم وما دام القاضي محميا ماديا ومعنويا» (العرفان، ص 109 - 121).
لا يمكن أنْ نفهم تحليل أستاذ الحقوق في إطاره المجرد لأنّ الخلاف على مثل تلك المسألة لا يقوم على النص بل على أدوات التنفيذ، فهو يفترض من جهة نسبة عالية من الوعي والإدراك والنزاهة والتجرّد ويقترح من جهة أخرى درجة تمثيلية شديدة الاختصاص تتوسّط صيغة الحاكم المطلق والبرلمان المشرع على مختلف الضغوط والأهواء. مثلا يوافق على اختيارالمسلمين إمامهم بواسطة مجموعة العلماء والمشرفين لكنه لم يحدد اختيارهؤلاء، هل يتم ذلك عن طريق الاقتراع وصناديق التصويت أو تقوم «صفوة» مختارة من «نخبة» المجتمع باختيارالإمام بمعزل عن الناس؟ فالصيغة الغامضة تدل على ذاك الالتباس الذي يخلط بين الحكم والحكّام والحكومة. فالقوى التي تنفذ أحكام الدستور سواء في حكومة إسلامية وغير إسلامية هي عناصر بشرية لابدّ من وجود آلية أو هيئات تقوم باختيارها أو انتخابها، وهذا لا يتم برد الاختيار إلى صفوة بمعزل عن إرادة الناس وحقهم في الاختيار. وهذا النوع من الاختيار «النخبوي» مالت حركات الجهاد والجماعات الإسلامية إلى تأييده حين صنفت الناس ورفضت الانتخاب واسطة للاختيار.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1974 - الخميس 31 يناير 2008م الموافق 22 محرم 1429هـ