العدد 1973 - الأربعاء 30 يناير 2008م الموافق 21 محرم 1429هـ

بوش يودع أميركا في خطاب الاتحاد

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

ألقى الرئيس الأميركي جورج بوش خطابه السنوي الأخير عن «حال الاتحاد». فالخطاب تقليدي يلقيه الرئيس الأميركي أمام الكونغرس بحضور أركان إدارته وقيادات عسكرية وأعضاء المحكمة العليا في السنة مرة واحدة يستعرض فيه إنجازاته وثغراته ويوضح سياساته وخططه في المستقبل. هذا التقليد تحول إلى نوع من النقد الذاتي والتقويم والاستشراف ومناسبة لإعادة قراءة الملفات وتوضيح الأخطاء والملابسات أمام الجمهور الأميركي. وأهمية خطاب بوش الأخير بعد سبع سنوات في الحكم أنه جاء في وقت تتنافس القوى الحزبية على ترشيح الشخص الذي تراه مناسبا لتحمّل مسئولية الرئاسة في السنوات الأربع المقبلة.

المناسبة مهمة وتعتبر محطة للمراجعة واستخلاص الدروس من التجربة. ولكن بوش كعادته لا يستفيد من الأخطاء ولا يتعلم من الوقائع الميدانية التي تجمع على أنه سيكون الرئيس الأسوأ في تاريخ الولايات المتحدة. هذه الوصمة السياسية يبدو أنها لا تعني الشيء الكثير لرئيس ارتكب مجموعة أخطاء أدت إلى كوارث في علاقات الولايات المتحدة الخارجية ولم تسفر عن تحسن في العلاقات الداخلية.

الرئيس بوش ليس الأسوأ في تعامله مع القضايا العربية والإسلامية و «الشرق أوسطية» وإنما الأسوأ في توسيع رقعة العداوات الدولية مع الولايات المتحدة. كذلك ليس سيئا في مغامراته العسكرية (الضربات الاستباقية) وفلسفة تقويض الدول بذريعة نشر «الديمقراطية» وإنما الأسوأ في استغلال المخاوف من مخاطر أمنية (إرهابية) وإعادة توظيفها في الداخل للتضييق على الحريات والملاحقة والتدخل في الخصوصيات ومراقبة الهواتف والتنصت على المكالمات واقتحام المصارف ورصد الحسابات ومصادرة الكمبيوترات واحتجاز ملفات خاصة وسرية للأشخاص.

حرب بوش الدولية ضد ما يسميه «شبكات الإرهاب» تطورت داخليا وأدت إلى تسجيل انتكاسات وخروقات داخلية في الولايات المتحدة. وهذا الأمر يعتبر في تاريخ الديمقراطية التي تتباهى إدارة واشنطن بنشرها في العالم الثالث أسوأ خطوة ارتكبتها العاصمة بحق الولايات؛ مما أدى إلى تشكيل قوة رافضة تمانع التدخلات الأمنية وترفض العودة إلى عهود سابقة عرفتها أميركا في خمسينات القرن الماضي تحت شعار مكافحة الشيوعية في عصر «الحرب الباردة».

بوش في خطاب الاتحاد (الأمة) تجنب التطرق إلى التفصيلات وتهرب من الإجابة عن أسئلة لا يمكن إنكارها؛ لأنها تتصل بالأرقام. والأرقام في بلد متقدم تقنيا كالولايات المتحدة تعتبر مرجعا رئيسيا لتوضيح الصورة والرد على الاعتراضات التي تصدر تباعا من مراكز القوى ومؤسسات الرصد المستقلة. مثلا ارتفعت موازنة الدفاع من نحو 336 مليار دولار في العام 2001 إلى نحو 583 مليارا في العام 2007. وارتفعت أيضا حقيبة استيراد النفط بنسبة 8 في المئة على مدار سبع سنوات وتستورد الولايات المتحدة حاليا ما نسبته 60 في المئة من حاجاتها إلى النفط من الخارج أي ما يعادل 3.6 مليار برميل في السنة. كذلك ازداد عدد الأميركيين الذين يعيشون حالات بشعة من الفقر إلى 3.6 ملايين نسمة بعد أن ارتفعت النسبة من 11.7 إلى 12.3 في المئة. وبعد سبع سنوات من حكم بوش أصبح واحد من كل ثمانية أميركيين (20 في المئة) يعيش تحت خط الفقر ويحتاج إلى مأوى؛ لضمان حياته. وازداد اللجوء إلى المأوى من 32.9 مليون نسمة في العام 2001 إلى 36.5 مليون نسمة في العام 2006 والنسبة لاتزال على ارتفاع. والأخطر من ذلك كان انهيار قيمة الدولار وانكسار الميزان التجاري وارتفاع الديون إلى رقم قياسي مقارنة بعهد سلفه بيل كلينتون. حجم الديون قفز من 5.7 تريليونات دولار في العام 2000 ليصل إلى 8.1 تريليونات في العام 2007 ويرجح أن يستمر في التضخم ليصل إلى 9.8 تريليونات دولار في العام 2008. وتدفع الخزينة الأميركية ما قيمته 43.7 مليار دولار فائدة سنوية على الديون.

قراءة معاكسة

كل هذا الكم من الانتكاسات لم يذكرها بوش في خطابه عن حال الاتحاد. فهو يعتبر تجربته ناجحة في كل الميادين والحسابات ويرى أن الاقتصاد الأميركي في حال جيدة؛ لأن شركات النفط (الطاقة) ومؤسسات التصنيع الحربي وأسواق الأسهم (البورصات) تعمل بنشاط وفاعلية أوسع من السابق. كذلك الحروب التي أعلنها أو هدد بها وكلفت الإدارة أكثر من 700 مليار دولار ينظر إليها بوش من زاوية مختلفة لا تكترث كثيرا لمئات آلاف الضحايا الذين سقطوا في أفغانستان والعراق وفلسطين ولبنان. فهذه الكوارث الإنسانية والعمرانية لا تعني الكثير لإدارة ارتهنت سياستها الخارجية بتسهيل الأعمال الحربية لمؤسسات وشركات تعتمد على تصدير الأسلحة أو استهلاك الذخيرة مقابل تأمين حاجات السوق من نفط منهوب من بلاد الرافدين وأموال مسلوبة من الخارج ومودعة في حسابات مصرفية أميركية أو بورصات نيويورك.

حسابات تيار «المحافظين الجدد» مختلفة. وإدارة بوش الجمهورية تقرأ التاريخ بأسلوب مخالف ومعكوس ومضاد لكل التحليلات والأرقام والاستطلاعات والاستنتاجات التي أخذ المؤرخون وعلماء الاجتماع يحذرون من مخاطرها السلبية واحتمال تراجع موقع الولايات المتحدة الدولي من المرتبة الأولى إلى الثانية وربما الثالثة في السنوات العشر المقبلة.

بناء على هذه القراءة الخاصة لم يتطرق بوش كثيرا في خطابه السنوي الأخير إلى تلك التحديات التي يرجح أن تواجهها الولايات المتحدة دوليا وخصوصا على مستوى التنافس الاقتصادي مع الاتحاد الأوروبي (ارتفاع قيمة صرف اليورو) واستمرار انكسار ميزان التبادل التجاري مع الصين أو عودة روسيا الاتحادية إلى ميدان السباق الدولي وبدء نمو قوة الهند الاقتصادية. فهذه النقاط المهمة أهملها بوش مركِّزا خطابه على النقاط الساخنة في أفغانستان والعراق و «الشرق الأوسط» وإيران وفلسطين. والمضحك في الخطاب أن بوش لايزال يعتبر أن أميركا كانت على حق في كل ما فعلته وأن استراتيجيتها سليمة وتتجه نحو «الانتصار».

خطاب بوش السنوي الأخير فقير على كل المستويات وتحديدا في مجال الرؤية الاستراتيجية لمستقبل الدولة التي دخلت في عهده مسار النزول التاريخي عن قمة العالم. فالولايات المتحدة لاتزال الأولى عالميا حتى الآن وستبقى كذلك إلى فترة مقبلة. ولكن آليات الاستمرار بالتفوق أخذت تتفكك ويرجح ألا تحافظ أميركا على موقعها في السنوات المقبلة بعد أن ظهرت في الأسواق الدولية قوى منافسةٌ اقتصاديا ونقديا. الدولار مثلا بدأ يفقد احترامه وأخذت الدول التابعة له تستبدله أو تستغني عنه جزئيا أو تلجأ إلى عملات أخرى للتنويع. وهذا الأمر يعتبر في علم التاريخ علامة من علامات البدء في الانهيار. فالنقد مؤشر على متانة قوة اقتصاد الدولة وهيبتها الدولية. السلطنة العثمانية مثلا بدأت تفقد هيبتها حين أخذ نقدها يتعرض للتنافس أو التزوير ولم يعد يملك تلك القوة الشرائية في السوق التي كان يتمتع بها سابقا. بريطانيا أيضا أخذت تفقد نفوذها الدولي حين دخل الدولار على خط التنافس مع الجنيه الاسترليني إلى أن تراجع النقد البريطاني ولم يعد يمتلك تلك الثقة السابقة في سوق التجارة الدولية. الآن يواجه الدولار العاصفة التاريخية نفسها التي أخذت تهبّ عليه من اليورو الأوروبي إلى الصين الصاعدة وروسيا العائدة. وكل هذه المؤشرات تدل على أمر تاريخي سبق أن تعرضت له دول كبرى في العالم... وداعا أميركا.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1973 - الأربعاء 30 يناير 2008م الموافق 21 محرم 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً